كان ذلك حوالي عام ١٨٧٠، في قرية (بشرى) الهاجعة في أحضان الجبل على عتبة غابة الأرز، ولم يكن مضى غير أعوام منذ فقد خليل خوري أباه في مذبحة (دير القمر) وهي إحدى المذابح البشعة العديدة التي خضبت في القرن الماضي جبال لبنان بدماء بنيه من المسلمين والمارونيين. فلما دهم اليتم الغلام، وهو ما يزال في الثامنة، تلقفه بالعطف والحدب أكثر من قلب، وخاصة من أفراد أسرة الشيخ راشد والد جيرانه الأطفال: بطرس وجميلة ومنتهى، ومن ثم وجد الغلام في ثلائتهم اخوة يبادلونه ألعابهم ويصطحبونه معهم كلما خرجوا على ظهور الخيل للصيد بين الجبال
مرت أعوام، وبلغ الفتى علمه الخامس عشر، فإذا ببطرس يفاجئه يوماً بالقول في لهجته القوية الآمرة:(إن جميلة سوف تغدو زوجتك يا خليل). . . وكأن هذه الكلمات قد أثارت في الفتى فتوته فسبقت مشاعره سنه، وإذا به يحس مزيجاً مسكراً من الأحاسيس والأخيلة، ثم إذا بالخيال يوشك أن يصبح حقيقة، حين يدرك خليل من حركات وهمسات أفراد الأسرتين أن زواجه من جميلة أضحى أمراً مفروغاً منه. . . ولم لا؟ أليست جميلة كأخته؟ إذن فالتطور لن يصل إلى حد الطفرة، لن يعدو أن يكون خطوة قصيرة واستكمالاً طبيعياً لمودتهما العذبة، المودة التي وقفت صلتهما عندها طويلاً. . . إلى أن وقع حادث تافه بد لها في قلب خليل إلى حب جارف. . .
. . . وإنه ليذكر ذلك الحادث كأنه قد حدث بالأمس. . . كان خليل عائداً مع بطرس وجميلة - عصر أحد أيام الشتاء - من قرية (حصرون) القريبة، حيث كانوا يبتاعون بعض ثمار القراصيا والمشمش المجفف. وإنهم لفي الطريق الغائص تحت الثلوج، وإذا ببطرس قد أبعد في سيره طلباً للصيد في الغابة. وبقى خليل وجميلة ينتظران عودته، وبينما هما يسيران متجاورين، لمست يد الفتى - عفواً - يد رفيقته. . . كانت باردة كالثلج، فأخذها بين راحتيه يدفئها ويعيد إليها الحياة، برغم أن الدفء والدم قد سريا إليها بعد حين، فإنه قد استمرأ أن يبقيها برهة أطول، حتى قالت له الفتاة ضاحكة:(دعني) فلم يبال رجاءها بل ضغط يدها أكثر، ثم اندفع فجأة يقبل اليد الرخصة بلا وعي! ظلت الفتاة ساكنة، لم يرعبها هذا الانفعال غير المألوف، ولكنها عادت بعد برهة تقول به في صوت خفيض:(هيا بنا نعود). . . ووافقها هذه المرة