وحين أبلغها بيتها، وجدهم قد أعدوا لهما نبيذاً دافئاً، ولكنه كان ثملاً بغير خمر. وتغيرت نظرته إلى جميلة، رآها بعين العاشق الفاحصة في ثوبها الصوفي الأبيض، وراح تصره يتملى شعرها اللامع ورقبتها التي في لون العاج، وخدها الدافق بحيوية مشبوبة، وعينيها الزرقاوين كالبحر الهادئ حين يرى من هامة غابة الأرز في يوم صحو جميل. . . ثم صوتها بدا له كأنه لم يسمعه من قبل، حتى لقد ود لو يذوقه في منبعه: بين شفتيها الحمراوين كالقرمز، وأسنانها البيض كالثلج. وبالاختصار وثب إلى ذهنه إدراك مباغت: أن طفلته قد صارت امرأة
وعندما وصل إلى بيته، سأل أمه في اضطراب:(ألم تحن الساعة بعد يا أمي؟) ولم يزد. وفهمت هي مراده بغريزة الأمومة فضحكت وهي تقول:(كما تريد يا بني). . . وفي اليوم التالي سار ثملاً مع أمه إلى بيت الشيخ راشد لخطبة جميلة. وبأمر من بطرس، وعلى ملأ من الأسرتين، قطف خليل من خدها القبلة الأولى. ثم جاء الربيع، وأزهرت أشجار الفاكهة الفواحة الأريج، ولكن بقية من الثلوج البيض المتناثرة، كانت ما تزال ترى من شرفة بيت الشيخ راشد، فسأل الفتى واجفاً (متى الزواج؟) وأجاب الأب (حين تذوب الثلوج هناك) وكان معنى هذا القرار: الانتظار حتى أغسطس. وهكذا صار الموعد رهناً بحرارة الشمس لا بحرارة قلبي العاشقين. . . ومن ثم صار الفتى يسرع إلى الشرفة كل صباح كي يطمئن. . . لكن الشتاء كان قاسياً فطال بقاء الثلوج
وفي ذات صباح جميل، رؤى خليل بعدو كالطفل إلى بيت جميلة وهو يقول:(جميلة!. . . جميلة! لقد ذابت آخر قطعة من الثلج. . . لم يعد هناك ثلوج) وأسرعا معاً إلى الأب، فقال لهما بصوت أغاظتهما رزانته:(ستتزوجان. . . بعد أن ينفض عيد الأرز)
. . . وجاء يوم العيد. وأقبلت على غابة الأرز جموع المعيدين، من قرية بشرى وسائر القرى المتناثرة كالعنقود على جانبي النهر. . . ثلاثة آلاف نسمة أقبلوا لقضاء يومهم في الهواء الطلق تحت ظلال الأشجار العتيقة، يستمعون إلى الطقوس الدينية، ويتناولون طعامهم على العشب، ويرقصون (الدبكة)، رقصتهم الوطنية الجميلة. . . حتى يغيب النهار فيعودون إلى بيوتهم مع المساء
وجلس أفراد الأسرتين تحت أرزة وارفة الظل مدت غصونها فوق رؤوسهم كأنها تباركهم