وتحميهم. . . جلسوا جميعاً: خليل وبطرس ووالده الشيخ وجميلة وأختها الصغرى منتهى، ثم صديقاتهن: آبلة ونالة وراحيل، وقد خلعت كل واحدة نقابها الأبيض ونشرته على فرع من شجرة الأرز. . . وكانت جميلة تبدو بينهن - وهي متكئة على وسادتها - كالملكة في بلاطها، وأحس خليل بغبطة جارفة. إنها ستغدو له وحده بعد أيام. . . وبينما هو مستغرق في الحلم همس له بطرس بلهجة تنطق بالحقد، وهو يشير أمامه:(مسلمان!. . . ماذا أتى بهما؟. . . ماذا يريدان؟ وتلفت خليل إلى حيث أشار فرأى أعرابيين شابين يترجلان من فوق صهوة فرسيهما المطهمين، وقد بدت طلعتهما رائعة وقسماتهما وسيمة. . . بلحيتيهما السوداوين، وعيونهما السمراء التي ترسل نظرات من نار وتقدح بفتنة لا يمكن تجاهلها. . . ووراءهما تابعان يجران الفرسين، ولم يكن الضيفان سوى عمر بك الحسين، وعبد الرزاق بك عثمان، من أمراء عكار، جاءا ينشدان النزهة والترويح عن النفس
دأب الشابان على تقليب البصر في وجوه القوم، حتى استقرت نظرات عمر بك على جميلة، وثبتت عندها. لم يحس خليل بدبيب الغيرة في بادئ الأمر، ولكن النظرات طالت، فبدأ الدم يصعد إلى رأسه. إن الغريب قد اجترأ على فتاته. . . أليست هذه إهانة للمارونيين جميعاً؟ وأخذ الاهتياج يعذبه، ولكنه كتمه وعاد ينظر إلى جميلة. كانت قد اضطجعت على وسادة ناعمة، في وضع أظهر فتنتها صارخة، وكان شعرها يحتضن كتفيها، وشعاع من الشمس قد انساب من بين الغصون فوقع على خديها وطلاهما بلون الذهب أو الحنطة. ترى هل تم هيئتها عن احتقارها لجرأة الغريب؟ ولكنها تنظر إليه بدورها طائعة، وعيونهما تتقابل. وأحس خليل أن عاصفة تجتاح نفسها وتعكر البحر الصافي في عينيها، حتى لتبدو عليها سمة الفتاة حين تسلم كيانها لانفعال حاد، وخيل إليه أن عاطفتها الناعمة من نحوه قد تبددت، جرفتها العاصفة العاتية التي أثارتها في أعماقها نظرات عمر. ومن ثم أحس الفتى بحلمه يتبدد رويداً رويداً، وبحلقه يجف، فود لو يستغيث، لكنه لم يجد صوته. إن نظراتهما ما تزال متقابلة في غير مبالاة بالجموع الغفيرة التي شغلها الطعام أو شغلتها الغفلة والغباء عن التنبه لما يجري. وأخيراً أفاق العاشق المعذب من غمرة أفكاره على صوت بطرس يسأله وهو يهز كتفه مراراً: (ما بالك يا خليل؟) فأجابه دون وعي: (إنها تنظر إلى الغريب) وضحك بطرس في سخرية، واحمرت