فرغ القوم من الطعام وبدأت رقصة (الدبكة) بعد حين، فرقص بطرس مع الجموع، ثم نهضت جميلة، فأخلى الكل الحلقة لها ووقفوا حولها يتفرجون في شغف، وراحت هي ترقص وحدها في خفة الطير، وكأنها من فرط رشاقتها لا تلمس الأرض. كان ذراعاها البضتان تدوران في الهواء، واتخذت بشرتها لون أحجار (بعلبك) حين يغرب عليها النهار. وفي كلمة، كانت كآلهة الشباب والجمال والحب، ثم فرغت من رقصتها بعد حين؛ وتقدم خليل ليهنئها؛ فإذا بها منشغلة عنه يتلقى نظرات الأعرابي الجميل. واقترب والدها يرحب بالضيف، وطال بينهما الحديث: امتدح الشيخ فرس عمر، فقال هذا:(عندي أختها وتدعي سلمي. سأحضرها لك إذا شئت) ورحل الفارسان، وعادت الأسرتان إلى القرية
وفي أثناء الطريق سار خليل وجميلة متجاورين، صامتين كأن عتاباً خفياً يلجم لسانيهما، وحين جلس خليل إلى مائدة العشاء - في بيتها - وجد على مقعده غلافا صغيراً فضه في غفلة العيون؛ فإذا فيه خاتم الخطبة وكل ما أهداه إليها من حلي!
تحطم قلبه بغتة، ولكن أحداً لم يلحظ شيئاً، فإن القلوب لا تحدث صوتاً وهي تتحطم. ووجد في نفسه القوة على الكتمان. وفي اليوم التالي لقيها في الحديقة، وجلسا معاً عند النافورة، فكانت جميلة ترمقه بنظرة مشفقة أليمة، ثم تخفض بصرها إلى ذرات الماء المتساقطة من النافورة في الحوض. . . وجرى بينهما عتاب رقيق حزين كنفسيهما. سألها خليل:(إنك لم تعودي تحبينني؟) وكان زائغ النظرات، فغضت من بصرها ثم أجابت بعد حين:(هو ذاك) وعبثاً حاول أن يطرد من قلبها شبح عمر، فإنه كان قد احتله وتحصن فيه. وافترقا على أمل يراود خليلاً، بأنها ستنسى الغريب مع الأيام.
لم يمض يومان حتى عاد عمر ومعه الفرس التي وعد بها أبا جميلة، وأعجب بها الشيخ راشد فسأل صاحبها عن الثمن، ولكن عمر أمهله قائلاً له في لهجة حازمة:(سأحدد لك الثمن. . . في الغد) وعبثاً ناقشه الشيخ فإنه أصر، وإزاء إصراره وتحت ضغط الحرج والشهامة والكرم، دعاه الشيخ إلى قبول ضيافته وقضاء الليلة تحت سقفه. . . فقبل عمر!
ماذا حدث بعد ذلك في ضمير الليل؟ لم يدر أحد. . . حتى أفاق خليل من نومه في الصباح مذعوراً، على صوت بطرس يبلغ إليه النبأ: إن الضيف قد فر، وجميلة قد اختفت. . . هل