وهنالك أنقطع للبحث والتأليف مدى أربعة أعوام، وأخذ في كتابة تاريخه الضخم، وأنجز منه مقدمته الشهيرة وعدة مجلدات أخرى. ثم رأى أن يقصد إلى تونس ليستكمل مراجعه في مكاتبها، وكانت بينه وبين سلطانها وحشة؛ فاستأمنه وحصل على رضائه؛ وغادر مقامه النائي إلى تونس فوصل إليها في شعبان سنة ٧٨٠. وهنالك اشتغل بإتمام مؤلفه بتكليف السلطان ورعايته حتى أتمه ورفعه إلى السلطان، ومدحه يومئذ بقصيدة طويلة أوردها في (تعريفه). وكان ذلك لنحو عامين من مقدمه إلى تونس (٧٨٢ - ١٣٨٠م).
وهنا ألقى ابن خلدون نفسه في معترك جديد من الدسائس، وقصده رجال البطانة بالكيد والسعاية لدى السلطان، وأغروه أكثر من مرة باستصحابه إلى غزواته ومهامه الخطرة، فخشى ابن خلدون عاقبة السعاية، ولم يجد في تونس ما كان ينشده من هدوء وسكينة، فانتهز فرصة وجود السلطان في تونس، ووجود سفينة مصرية في مرساها تقصد الإسكندرية، فألح على السلطان في الإذن له بالسفر لقضاء الحج، وركب البحر بمفرده تاركا أسرته في تونس، فوصل الإسكندرية كما قدمنا في يوم عيد الفطر سنة ٧٨٤.
كان مقدم ابن خلدون إلى مصر إذا، نوعا من الفرار وخيفة البطش والمحنة، ولم يكن قضاء الفريضة قصده المباشر، بل كانت حجته الظاهرة. وكان يرجو بلا ريب أن يقضي بقية أيامه بمصر في هدوء ودعة، وأن ينعم بذلك الاستقرار الذي لم تهيئه له بالمغرب حياة النضال والمغامرة. وكان يومئذ في الثانية والخمسين من عمره، ولكنه كان وافر النشاط والقوة، يتطلع دائما إلى مراتب النفوذ والعزة؛ وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب، ولبلاطها شهرة واسعة في حماية العلوم والآداب، فكان يرجو أن ينال قسطه من هذه العناية والحماية. ووصل ابن خلدون إلى القاهرة في أول ذي القعدة سنة ٨٤ - نوفمبر سنة ١٣٨٢؛ فبهرته ضخامتها وعظمتها وبهاؤها كما بهرت سلفه ومواطنه الرحالة ابن بطوطة قبل ذلك بنصف قرن وكما بهرت على كر العصور كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب. ولا غرو فان المؤرخ لم ير بالمغرب سوى تلك المدن الصخرية المتواضعة، ولم ير بالأندلس حيث قضا ردحا من الزمن، مدينة في عظمة القاهرة وروعتها. وهو يهتف للقاهرة اثر مقدمه ويحييها بحماسة تنم عن عميق إعجابه وسحره وتأثره، ويصفها في تلك الفقرة الرنانة: (فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم،