ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك؛ تلوح القصور والأواوين في جوه. وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطئ النيل نهر، ومدفع مياه السماء، يسقيه العلل والنهل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجة؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. . .)
ولم يكن ابن خلدون نكرة في مصر. فقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته؛ وكانت نسخ من مؤلفه الضخم ولا سيما مقدمته الشهيرة قد ذاعت قبل ذلك بقليل في مصر وغيرها من بلدان المشرق، وأعجبت دوائر العلم والتفكير والأدب بطرافة مقدمته وجدتها وروعة مباحثها. فلم يكد يحل بالقاهرة حتى أقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب. يقول ابن خلدون في كبرياء وتواضع معا:(وأنثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا) وهذا ما تشير إليه التراجم المصرية؛ فيقول أبو المحاسن بن تغري بردي في ترجمته لابن خلدون:(واستوطن القاهرة وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة، واشتغل وأفاد) ويقول السخاوي: (وتلقاه أهلها (أي أهل مصر) وأكرموه وأكثروا ملازمته والتردد عليه، بل تصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة. . .). جلس ابن خلدون للتدريس بالأزهر، والظاهر أنه كان يدرس الحديث والفقه المالكي، ويشرح نظرياته في العمران والعصبية وأسس الملك ونشأة الدول؛ وغيرها مما عرض إليه في مقدمته. وكانت هذه الدروس خير إعلان عن غزير علمه، وشائق بحثه، وساخر بيانه. وكان ابن خلدون محدثا، بارعا رائع المحاضرة، يخلب لباب سامعيه بمنطقه وذلاقته. وهذا ما يحدثنا به جماعة من أعلام التفكير والأدب المصريين الذي سمعوه أو درسوا عليه؛ ومنهم المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي الذي سمعه ودرس عليه فتى وكذا الحافظ ابن حجر؛ فقد درس عليه وأنتفع بعلمه ووصفه بقوله:(وكان لسنا فصيحا، حسن الترسل وسط النظم؛ مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة) ونقل السخاوي عن الجمال البشيشي أنه (كان فصيحا مفوها جميل الصورة) وعن الركراكي (أن محاضرته إليها المنتهى).
وهكذا استطاع ابن خلدون لأول مقدمه أن يخلب الباب المجتمع القاهري، وأن يستثير