إعجابه وتقديره؛ ولكن صفاء الأفق من حوله لم يدم طويلا كما سنرى، وفي أثناء ذلك اتصل ابن خلدون بأمير من أمراء البلاط يدعى علاء الدين الطنبغا الجواني، فشمله برعايته، وساعده على التقرب من السلطان والاتصال به. وكان السلطان يومئذ الظاهر برقوق؛ وقد ولى الملك قبيل مقدم ابن خلدون بأيام قلائل (أواخر رمضان سنة ٧٨٤)، فأكرم وفادة المؤرخ واهتم بأمره؛ يقول ابن خلدون:(فأبر مقامي. وانس الغربة ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم) وبذا تحققت أمنية المؤرخ من الاستقرار والمقام الهادئ في ظل أمير يحميه ويكفل رزقه، ولم يمض قليل على ذلك حتى خلا منصب للتدريس بالمدرسة (القمحية) بجوار جامع عمرو وهي من مدارس المالكية فعينه السلطان فيه. ويعني ابن خلدون في تعريفه، بوصف مجلسه الأول في هذا المعهد؛ فقد شهده جمع من الأكابر أرسلهم السلطان لشهوده؛ والتفوا حول المؤرخ. وألقى ابن خلدون في ذلك الحفل خطاباً بليغاً، يحرص على إيراده بنصه. وقد تكلم فيه بعد الديباجة عن فضل العلماء في شد أزر الدولة الإسلامية. وعن تغلب الدول. ثم أشاد بما لدى السلاطين المصرية من فضل في نصرة الإسلام، وإعزازه، ومن همم في إنشاء المساجد والمدارس، ورعاية العلم والعلماء والقضاة، ثم دعا للملك الظاهر، وأشاد بعزمه وعدله وعقله؛ وعطف بعدئذ على نفسه، وما أوليه من شرف المنصب في تلك العبارة الشعرية:(ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحة المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون يسقط علينا من غصنه المورق. . أولوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا همتي إيضاحاً ونكرتي تعريفاً، ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف. . . إلخ)