تلزمنا بنزولنا الرملة، فأقصرنا عن زيارة يافا أسفين آملين أن تيسر لنا فرصة نزور فيها يافا والرملة أيضاً
خرجت في العشى في صحبة الصجيق الكريم أحمد حلمي باشا لنجول في الرملة وما حولها على قدر ما تأذن لنا بقية نهار من رمضان فذهبنا إلى أطلال مسجد كبير تدل رسومه وبقايا جدره وأسطواناته، ومكان المحراب من هذه البقايا، أنه كان من أعظم الجوامع الإسلامية وأفسحها كجامع بني أمية في دمشق، وجامع المعتصم في سامرا، وجامع ابن طولون في مصر أو أوسع. ولا يبنى مثل هذا الجامع إلا في مدينة كبيرة عامرة. وكذلك كانت الرملة البيضاء. فقد مصرها سليمان بن عبد الملك وهو وال على فلسطين من قبل أخيه الوليد، ثم عني بعمارتها بعد أن آلت إليه الخلافة، ودعا الناس إلى البناء فيها فاتسعت وعظمت. وقد روى ياقوت أن سليمان أراد أن يخلد ذكره بمدينة الرملة ومسجدها كما خلد ذكر أبيه عبد الملك بقبة الصخرة، وذكر أخيه الوليد بجامع دمشق. وحسب جامع الرملة أن يكون صنو جامع دمشق، وبيت المقدس. ما هذه الأساطين والجدر إلا بقبة العراك المديد بين الحادثات المدمرة وهذا المسجد العظيم، قامت كما يثبت المجاهدون الصابرون للخطوب الجسيمة، والأرزاء العظيمة
وقد تداولت الرملة أحداث الدهر أيام الحروب الصليبية حتى أنقذها من الفرنج السلطان صلاح الدين عام ثلاث وثمانين وخمسمائة؛ ثم اضطر إلى أن يخربها بعد أربع سنين حذرا أن يستولي عليه الفرنج مرة أخرى. وناهيك بالمحن التي تضطر صلاح الدين إلى إخراب مثل هذه المدينة!
وفي شمالي ساحة الجامع منارة عظيمة عالية مربعة مبنية بالحجارة الضخمة المهندسة بناها الملك الناصر محمد بن قلاون وكأنه أراد أن يجعلها مئذنة ومنارة أو مرقباً لمراقبة السفن القادمة إلى سواحل فلسطين. على المنارة كتابة واضحة فيها اسم الملك الناصر وألقابة، وتاريخ بنائها سنة ثماني عشرة وسبعمائة. والمنارة قائمة وحدها مفردة، كأنها رمز للتوحيد ثابت على مر الزمان، أو علم للأيمان القوي الذي لا يقهره تقلب الحدثان. كم شهدت هذه المنارة من الغير، ورأت من أحداث القدر، وتاريخ البشر! وليت شعري ماذا تروى من أخبار السلف، وماذا تنقم من أفعال الخلف؟