للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكان ذلك لأن الأسد يدرك أكثر مما يشعر، وأن الديك يشعر أكثر مما يدرك، والشعور أحط مرتبة من الإدراك، فما في الوجود شعور أقوى من شعور الأطفال

وأبو تمام الذي بلغ الغاية في الرثاء بهذا البيت في وصف أحد المستشهدين

وقد كان فوت الموت سهلاً فردًه ... إليه الحفاظ المرُّ والخُلق الوعر

هو نفسه أبو تمام الذي اختار في ديوان الحماسة أبياتاً في تبرير الهرب من ميدان القتال، وهي أبيات بعيدة من روح الحماسة، ولكنها من شواهد العقل، فقد علل الشاعر هربه من الميدان بأنه يفر من أعدائه (طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد)، ثم قال:

وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضررْ عدوي مشهدي

وعلى هذا يكون إيثار العقل على الشعور في ميادين القتال مما آمن به العرب قبل مئات السنين، وبهذا كان هذا الشاعر من تباشير الإنسان الجديد

أدب وأدب

الأدب الأول سبق تسهيل المواصلات، فاختلفت الصور هنا وهناك

جان جاك روسو لن يخلق بعد اليوم، فما تسمح الدنيا في أيامنا هذه بأن يتشرد فتى مثل هذا الفتى، بحيث يقطع مئات الأميال على قدميه، وبحيث ينفعل بمناظر السهول والجبال، فيكتب الروائع في وصف ما رأت عيناه وهو ينتقل من مكان إلى مكان في الشهور الطوال

أدب الرحلات سينقرض، ولعله انقرض، بسبب ذيوع السفر بالطيارات، وهو سفر لا يتيح أية فرصة لدرس ما تمر عليه من مختلف البلاد

وأدب التشفي والانتقام لن يعود، وهو الروح الذي أملي على أبي تمام هذه الأبيات عندما أحرق المعتصم مدينة عمورية:

ما رَبعُ ميةَ معموراً يطيف به ... غيلانُ أبهى ربىً من ربعها الخرِب

ولا الخدود ولو أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظر من خدها الترب

سماجة غنيت منها العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب

وحُسنُ منقلب تبقى عواقبه ... جاءت بشاشته من سوء منقلب

فما تقبل اليوم الشماتة بمدينة تحترق، ولو كان أهلها من أخطر الأعداء

ولأبي تمام عذر فيما صنع، فقد استطال إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية ثم استطال،

<<  <  ج:
ص:  >  >>