من الذكاء لما استطعت أن تبلغ بقيثارك وكأسك من المجد ما لم يبلغه أعاظم الرجال بالدرس العميق والجهد المتصل
أنكريون: إني لأشم من كلامك رائحة التهكم؛ ولكني مازلت أعتقد أن من أصعب الأمور على المرء أن يشرب ويغنى كما كنت أشرب وأغنى، وإن من أسهلها عليه أن يفلسف كما تفلسف أنت. إنك لكي تشرب وتغنى كما كنت أفعل، يجب أن تتجرد من العواطف الجائشة، وألا تطمح إلى شئ ليس إلى حصوله من سبيل، وأن تكون مستعداً لأخذ الحياة على علاتها. وقصارى القول إن هناك عدداً من المسائل الصغيرة يجب على المرء قبل كل شئ أن يتدبرها مع نفسه؛ وأن هذه المسائل وإن كانت لا تحتاج إلى براعة فائقة، لا ينتهي منها المرء إلا بعد عناء طويل. أما أن يفلسف المرء، كما كنت تفعل، فلا يحتاج إلى كل هذا العناء، ذلك لأن الفيلسوف لا يضطر إلى معالجة نفسه من الطموح أو الطمع، وأن من الفلاسفة من تجمع لديه من المنح خمسمائة ألف ريال، ولكنه لم ينفقها كلها في سبيل العلم كما أراد مانحها. وجملة الكلام أن في هذا النوع من الفلسفة أشياء كثيرة تنافي الفلسفة
أرسطو: يظهر أنك سمعت عني وشايات كثيرة منذ هبطت إلينا. ومهما يكن من الأمر فإن مقياس الرجل عقله، وإن أسمي عمل في الوجود هو أن تعين الناس على فهم أسرار هذه الطبيعة واستجلاء غوامضها
أنكريون: إن هناك ما يبرهن على أن الرجال يسيئون استعمال كل شئ. فالفلسفة في ذاتها شئ جميل للغاية؛ ولو أحسن الناس استعمالها لأفادتهم فوائد جليلة جزيلة؛ ولكنهم أشفقو من أن تربكهم إذا هي تدخلت في أمورهم فقذفوا بها في الفضاء لتبحث عن الكواكب وقياس حركاتها، فإذا أعادوها إلى أرضهم استعانوا بها على بحث ما يظنونه هناك. وخلاصة القول أنهم حريصون ما استطاعوا على أن تكون الفلسفة مشغولة عنهم. ولما كانوا شديدي الرغبة في أن يكونوا فلاسفة بأيسر كلفة فقد وسعوا بفضل براعتهم، استعمال هذا اللقب حتى أخذوا يسبغونه في أكثر الأحيان، على الذين يبحثون في قوانين الطبيعة.
أرسطو: وهل ثمة لقب أصلح لهؤلاء من هذا اللقب؟
أنكريون: الفلسفة يجب أن تعنى بالناس فحسب، وألا تشغل نفسها بما عداهم؛ فالفلكي ينظر في النجوم، والطبيب يعنى بالأجسام، والفيلسوف يفكر في نفسه. ولكن من ذا الذي يرضى