وفي رسالة الهناء هذه التي نجلوها لرواد الأدب العلائي في عيده الألفي يقرر لنا شيخ المعرة كيف يتحول الطبع الإنساني من الكذب إلى الصدق، ويسلك في تقريره مثل ذلك النسق الفريد المبتدع الذي سلكه في فصوله وغاياته، فيتمثل صاحبه وقد انشقت له لجج البحار بإذن الله، كما انشقت من قبل لموسى الكليم، ثم يتمثل دهشة الأسماك - حينئذ - مما حدث، ويتخيل حيتان البحر وهي تتحدث متعجبة متطلعة إلى تعرف اسم ذلك الشيخ العظيم الذي تمت على يديه المعجزة، مضاعفة لصاحبه الثناء، داعية له بطول البقاء، وموصول السعادة والهناء، مبتهلة إلى الله أن يجزل له في عطائه ومكافأته، في دنياه وآخرته، جزاء ما أسلف للناس من مكرمات، وأسدى إليهم من حسنات
فإذا انتهى شيخ المعرة من هذا التمهيد، راح يصف في براعته النادرة، وألمعيته الساخرة، كيف تأذن القدرة الإلهية أن تخمد نيران الكذب، ومتى تريح العالم من لهيبه المستعر، الذي لا يبقى ولا يذر
ولكنه يبنى آماله البعيدة على مقدمات تسبقها، وهي في قدرة الله هينة، وإن كانت في طاقة البشر مستحيلة التحقيق
فهو إذا شاء - سبحانه - أمر اللجج الملاح، فأصبحت عسلاً سائغاً حلو المذاق، وانقلبت ملوحتها المفرطة في المرارة شهداً مفرطاً في اللذاذة والحلاوة
وهو إذا شاء - سبحانه - جعل السفينة تمشي على اليابسة، وتصبح قبساً متوهجاً من السّنا والنور، كأنما قبس لتوه من شعلة من النار ملتهبة. وليس هذا بالمطلب البعيد المنال، متى أذن من أبدع الأكوان على غير مثال
وهو إذا شاء - سبحانه - أمر الريح أن تحمل السفينة وأن تطير بها في أجواز الفضاء، كما حلت عرش (بلقيس) في غابر الزمان، فإن القياس يجوِّز وقوعه ويرضاه، والقدر تقر حدوثه ولا تأباه
ولو شاء - سبحانه - لجعل أسماك البحر وحيتانه آمنات ممنعات، في رغد من العيش هانئات، يتهادين في ذرا الجبال الشامخات، ويمرحن في أرجائها الفسيحة منطلقات، ويجرين في جنباتها مسرعات، كما تجري أسراب النعام في واسع الفلوات، زرافات وجماعات.