للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهنا يتمثل (أبو العلاء) صاحبه - وقد تم له المراد، وبلغ من غايته ما أراد - ويتمثل القدرة الإلهية التي لا يعجزها شئ ممتنع في العقول، وقد أذنت لمياه البحر أن تعود إليه، وأعلنت كلمتها بأن ينصلح ما فسد من الزمان، ويستقيم ما اعوج من طبع الإنسان، وتنطفئ نيران الإفك والبهتان

ومتى تحققت هذه الخوارق والمعجزات، انتصر الصدق على الأكاذيب والترهات. فلنرتقب مع شيخنا المعري هذه النتائج الباهرات، فلسنا يائسين من الفوز والظفر، والعاقبة لمن تأنى وصبر

لعل الكثيرين من قراء (ابن الرومي) يذكرون - بهذه المناسبة - أسلوبه البارع في سخريته من الوزير (أبي الصقر) حين ولى الديوان، وعجب خصومه من تلك الطفرة، وكيف تظاهر (ابن الرومي) باستنكار ما تخيله من دهشتهم فقرر لهم معابثاً ساخطاً أن ظفره بذلك المنصب ليس أعجب من ظفره بالانتساب إلى أسرة (شيبان) العربية الكريمة مع أنه من الأعجام، ولكن الحظ السعيد يصنع الأعاجيب، والقدرة الإلهية تفعل ما تشاء من الغرائب، ثم ختم دعابته القاسية بقوله:

إن للحظ كيمياء، إذا ما ... مس كلباً أحاله إنسانا

يفعل الله ما يشاء، كما ش ... ء، متى شاء كائناً ما كانا

وللمعري في هذه الرسالة مثل ما له في غيرها من منثوره ومنظومه: فنون معجبة في وصف ما تبدعه القدرة من تصوير الأماني والأحلام، وبعث الهواجس والأوهام، شخوصاً بادية للعيان، مائلة في الخلد والجنان

وهو لا يفتأ يتمثل جميع الكائنات، من جماد وحيوان ونبات، وكواكب وسيارات، وحروف هجائية وكلمات، وقواف وحركات، وأصفار وأعداد وأرقام مضروبات ومقسومات، كأنما هي أناسي مثلنا، موفورة الإحساس بالحياة، تألم مثل ما نألم، وتتناجى كما نتناجى، ويعرض لها كما تعرض لنا - ألوان من الأماني والرغبات، وتستحر بينها ضروب الفتن والعدوات وتعلن في منطق - هو على خفائه عنا - بليغ فصيح، رائع التقديس والتسبيح، تبتهل بصادق الدعوات، في الغدوات والآصال والروحات، لخالق الأرضين ومبدع السموات

<<  <  ج:
ص:  >  >>