لأنه يجوز أن يكون شربها جاهلاً أنها خمر أو مكرهاً على شربها، إلى غير هذا من الأعذار المسقطة للحدود
وقد رأى عمر مع هذا أن يستقدم قدامة من البحرين، فكتب إليه أن يقدم عليه فقدم، فلم يلبث الجارود أن رآه حتى ذهب إلى عمر فقال له: أقم على هذا كتاب الله. فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد. فقال: قد أديت شهادتك. فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله. فقال عمر: ما أراك إلا خصما، وما شهد معك إلا رجل واحد. فقال الجارود: أنشدك الله. فقال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنّك. فقال الجارود: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني. وقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فاسألها، وهي امرأة قدامة. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها، وثبت عليه بذلك شرب الخمر، ولا شك أن في موقف عمر مع الجارود أكبر دلالة على أن الغيرة على الدين يجب أن تكون في اعتدال واتزان، ألا يكون معها تحامل ولا شهوة انتقام، فإذا لم تكن الغيرة الدينية بهذا الشكل لم يكن لها قيمة في الدين، واستحق صاحبها أن يردع بما ردع به عمر الجارود. وما أحوج كثيراً ممن يصيحون بالغيرة على الدين في عصرنا إلى من يردعهم ذلك الردع، ليقفوا عند حد الاعتدال في غيرتهم على الدين، ولا يصلوا في ذلك إلى حد التهور الذي يضر الدين ولا ينفعه، ويجعلهم كالصديق الجاهل الذي يضر صديقه من حيث يريد النفع له، وقد آثر القدماء في ذلك العدو على الصديق، وذهبت فيه حكمتهم المشهورة: عدو عاقل خير من صديق جاهل
وإنما سقطت شهادة الجارود بطلبه أقامة الحد بعد تأدية الشهادة، لأن طلب الحكم من حق المدعي لا الشاهد، فإذا طلبه الشاهد بعد تأدية شهادته وأصر عليه كما أصر الجارود بطلت به شهادته، وكان ذلك مما يدعو إلى الشك في أمره
ولكن ذلك التأويل الخاطئ إذا لم ينفع قدامة في إسقاط الحد عنه، فإنه لم يتخذ وسيلة للتشهير به وقد أخطأ فيه خطأ ظاهراً، ولم يطعن به أحد عليه في دينه وقد خالف فيه إجماع أهل عصره. وما كان لمثله أن يخفى عليه ذلك النص المحكم في تحريم الخمر، بل بقى له دينه صحيح الأديم، وبقى له شرف هجرته وبدريته وسبقه إلى الإسلام. وقد غاضب