لفنه وما لا يلزم، كالدوحة تدرك جذورها بالفطرة طريقها إلى موارد الماء ومواطن الغذاء. أما ذلك الذي يقال ويحكى عن الجلد والصبر على مشقة أدبنا العربي، فهو توهم ساذج، أو مفاخرة تعرفها ممن لا محصول عندهم غير هذا، فما أظن الغوص في كتب الأدب العربي أشق من الغوص في بحار العلوم والفلسفة والآداب والفنون لمختلف الأمم والحضارات. وأنا الذي طالب الأديب بأن يكون (موسوعياً) على قدر الإمكان، يلم بكل علم وبكل أدب وبكل فن (راجع كتاب زهرة العمر) لا ينتظر مني أن أستهول تلك المشقة المزعومة في مطالعة أدبنا العربي!! على أن الصديق المازني خليق بالشكر على كل حال؛ فقد رأى من واجب الزمالة أن يكون مخلصاً في الرأي. وما أجمل هذا الموقف منه! وما أحرى بي أن أبادله إخلاصاً بإخلاص ونصحاً بنصح، فأكشف له عن مخاوف طالما ساورتني وساورت اليقظين من محبيه. فهو قد أراد التقريب بين العامية والفصحى فتبسط في أسلوبه ومعانيه، وهذا ما يحمد عليه؛ ولكن الذي نخشاه هو أن يكون جريه في طريق التبسيط داعياً إلى أن يجر معه الفكر من عليائه إلى مستوى غير المستوى الذي ينبغي له. ولعلنا واهمون! ولعلها مخاوف الصداقة! فالمحبة خوف ورجاء. وكلنا يرجو للمازني أن يحلق إلى جلال الفكرة كما برع في جمال العبارة. وليس هذا بعزيز على الصديق العزيز.
وأما الرأي الآخر فهو رأي أخي أحمد أمين بك في الأدب الأمريكي الذي تحدث عنه في العدد الماضي من مجلة (الثقافة) قائلاً: (وهذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجال مارسوا الحياة العملية في شتى شئونها، ثم لم يكتبوا في خيال وأوهام وأحلام، إنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم الحالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية، وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان والرومان، وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه. فللأديب العربي أن يستوحى امرأ القيس أو (شهرزاد)! ولكن يجب أن يكون ذلك نوعاً من الأدب لا كل نوع، ولا هو النوع الغالب ولا هو الأرقى. . .)
مع الأسف أراني مضطراً أن أقول للصديق المبجل أن استيحاء أساطير اليونان والرومان وامرئ القيس و (شهرزاد) هو النوع الأرقى في الأدب. . . في كل أدب. . . لا في الماضي وحده ولا في الحاضر. . . بل في الغد أيضاً وبعد آلاف السنين، ما دام الإنسان إنساناً، وما دام رقيه الذهني بخير لم يصبه نكاس. فالإنسان الأعلى هو الذي يصون