وكان عمرو في صغره يرعى غنما لأبيه، ثم صار جزاراً. وما ظنك بشيخ من أقوام العرب كالعاص بن وائل أبي عمرو يبلغه هذا المطعن في نسب ولد يعزى إليه ولم يكن للعرب يومئذ حكومة يدفعون بها عن أنفسهم ما لحقهم من سوء الأنساب بأولاد يعزون إليهم كرهاً، وكيف حاول أبو سفيان إخفاء نسب ابنه زياد، فلا يبعد أن يلجأ العاص بن وائل إلى حرمان عمرو من ماله وهو عنده شيء مادي مقدر ومقوم بالدينار والدرهم. وكان من خصال بني سهم المطال في الدين وكم كانوا له يلوون! ولعله قال يكفى عمراً أن ينتمي ويدعي إلى العاص
ولا جرم أن مثل هذا الخاطر مر ببال الأستاذ العقاد، ولكن ما كشفت عنه نصوص الرواية. وكان جهده في حقائق التاريخ أسد الآراء وأبلغ الحجج، فإذا علل الأستاذ المؤلف سر طموح ابن العاص وتعاليه بفقدان نسبه الطيب لأمه، فما أحرى التعليل بميله للمال وتكالبه عليه لحرمانه الميراث
أما نفس ابن العاص فقد حلل العقاد تفاريقها وألوانها من وجهات عدة؛ فآونة عرضها في نفس متهالك على الثراء، وجاء بالبرهان على ذلك في أقوال عمرو وأفعاله منذ عهد الرسول إلى وفاته بمصر بعد فتحها الثاني. وآونة يشرح بديهته ودرايته واضطلاعه بالحكم والولاية، وظفره بالثقة والخبرة اللتين مكنتاه من الفتح والنضال، فهو في حضرة البطريق ينجو من مكيدة، وهو في مبارزته للإمام عليّ ينجو بالحيلة والدهاء
وهذا عمرو كهلاً يدلف إلى أعز العمر بأساً وحصافة، فهو فاتح فلسطين ثم فاتح مصر مرتين. وهذا عمرو شيخاً منهوماً يتلهف شوقاً إلى المال وله ضيعة وحشم، ويكون من همه بعد أن عزت عليه الخلافة أن تكون له مصر ولاية جامعة، فينال ما يبتغى ويموت فيها ويدفن في ثراها
قلت ما أحسن كتباً يطرف بها الناس أديب الكنانة الأستاذ العقاد، فهو بعد أن طوف طويلاً في آفاق فنه بالأدب الصرف، تلفت صوب الماضي الأغر واتصل بمآثره الخالدة، فعاد منها بما غاب عن القارئين وزودهم بعبقريات وهاجة في تاريخ الإسلام تضيء في محمد بن عبد الله وصحبه وأبطاله، وهذا لعمري أجل فضل يؤديه الأديب للسيرة والتاريخ.
وما انتهيت من كتاب العقاد (عمرو بن العاص) حتى قلت: يا لله لمصر الخيرة، ويا لمجد