ووقف برهة وقد تنزي الدم في عروقه رعباً وفزعاً، حتى أحس كما لو أن ناراً تلتهمه. ثم استدار على عقبيه في ارتباك ووهل، وراح يطلق ساقيه للريح حتى ما تكادان تلمسان الأرض، دون أن يعرف حقيقة ما يأتي أو يتبين عاقبته
جرى كل هذا في آونة قصيرة. وفي اللحظة التي بدأ فيها أوليفر يجري، كان السيد قد دس يده في جيبه فافتقد منديله. وأدار فيما حوله نظرة ثاقبة، وما إن رأى الغلام يركض في هذه السرعة حتى قر في نفسه أنه السارق فصاح بملء حنجرته:(أوقفوا اللص!) ثم انطلق خلفه مهرولاً والكتاب في يده
ولم يكن السيد وحده مثير هذه المطاردة: ذلك أن المراوغ ومستر تشارلي باتس كانا قد توقفا لدى مدخل أول بيت بعد المنحنى، كيلا يلفتا إليهما الأنظار وهما يجريان عبر الشارع العريض؛ فما إن سمعنا الصيحة وأبصرا أوليفر يجري راكضاً حتى تصورا ما حدث تماماً. فبرزا من مكمنهما في تأهب وإعجال وأقبلا يصيحان:(أوقفوا اللص) مشتركين في المطاردة كسادة كرماء ذوي أريحية. . .
ولم يكن أوليفر متأهباً لتطور الموقف على هذا الوجه، فرهب واستطير، ومضى في جرينه كالريح العاصف، ومن خلفه السيد العجوز يقفوه الغلامان، وهم يتصايحون جميعاً في صرخات تشبه الزئير
(أوقفوا اللص. . . أوقفوا اللص) شد ما يسحر الناس هذا النداء!
لقد ترك له البائع حانوته والحوذي مركبته؛ وطرح القصاب والخباز واللبان أوعيتهم التي يحملون؛ وتخلى الشيال عن حمله، والتلميذ عن دفتره، وممهد الطرق عن معوله، والطفل الصغير عن لعبته. . . وجرى أولئك جميعاً في هرج ومرج، متدافعين متصايحين؛ يصدمون السابلة عند كل منعطف طريق. . . ويهيجون الكلاب. . . ويفزعون الدواجن. . . وقد دوت الشوارع والميادين والرحبات مرددة صدى صيحاتهم: أوقفوا اللص، أوقفوا اللص. . . كانت الصيحة تنطلق من أفواه مائة، والحشد يزداد كثافة عند كل مفترق طريق، وقد ثارت الهبوات والأوحال تحت أقدامهم، وارتفع لنعالهم فوق الأرصفة خفق شديد