التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية). وهذا حق؛ إذ الفردية هي عنوان الكرامة الإنسانية. هي شعور الإنسان بقيمة فكره وإحساسه لا بفكر الجماعة وإحساسها. إن الحيوان لا يفكر بفكره ولا يحس بإحساسه. إنما هو يفكر ويحس بغريزة الجماعة كلها والنوع كله. ولن يرقي الحيوان إلى مرتبة الإنسان إلا إذا استقل في تفكيره وإحساسه. إن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً، والفردية أي الحرية هي التي جعلت الإنسان إنساناً. على أنه لا ينبغي الخلط بين الفردية والأنانية. فإني حينما قلت إن (الفنان الذي لا يقول أنا ليس بفنان، كما أن العالم إذا قال أنا ليس بعالم). إنما قصدت إلى المعنى الفني لا المعنى الخلقي. قصدت أن الفنان هو الذي يقول (إن الطبيعة جميلة لأني أراها جميلة). أما العالم فلا ينبغي له أن يقول ذلك. ولكن عليه أن يقول:(الطبيعة جميلة أو قبيحة، ساكنة أو متحركة، لأن البحث والتحليل والبرهان والدليل تؤدى إلى هذه النتيجة). الفنان هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال نفسه. والعالم هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال المجهر. وكلاهما يكمل الآخر في بناء المعارف الإنسانية. ولا ينبغي لأحدهما أن يلجأ إلى وسائل الآخر في استجلاء الحقائق واستكناه الطبائع. إن الفن مصدره الشخص، والعلم مصدره الموضوع. الفن شخصي والعلم موضوعي. الفن يقول (أنا) أي (نفسي)؛ والعلم يقول (هو) أي (الشيء).
أما أن يخدم الفنان والعالم أمته وقومه فهذا واقع بالبداهة والضرورة، لأن آثار الفن والعلم لا تبقى ولا يمكن أن تبقى إلا إذا رأى الناس في بقائها منفعة. فلا ينبغي أن نقول للفنان والعالم:(اصنعا شيئاً نافعاً للناس) بل يجب أن نقول لهما فقط: (اصنعا فناً وعلماً).
وبعد فأراني قد أثقلت على القراءة وعلى أخي الجليل أحمد أمين بك، وإني لأشكره إذ أتاح لي هذه الثرثرة التي تريح النفس أحياناً، كما أحمد له ويحمد له القراء هذه الموضوعات التي يقع عليها بعين بصيرته النافذة ويعالجها بما عرف عنه من إشراق ذهني ينير للناس غوامض الأشياء. وله من أخيه المعجب بفكره وأدبه أخلص التحية.