عد القرآن أثراً جاهلياً، فإنه من صور العصر الجاهلي، إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره وهو - بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرده بصفات أدبية لم تكن معروفة في ظنهم عند العرب - يعطينا صورة للنثر الجاهلي، وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء). تأمل كلامه هذا جيداً وافهمه في ضوء ما قدمنا لك في المقالين السابقين وفي التمهيد قبلهما، ثم تأمل قوله (وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء) فإن لازم هذا الكلام أنها كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند النبي. وهذا تلميح كتصريح في الوضوح. ثم مضى يتمم حكايته عن نفسه فقال:
(وقد قدمت هذا الشاهد للمسيو مرسيه الذي يرى أن النثر الفني يبتدئ بابن المقفع، فأخذ يبحث عن مخرج ولكنه لم يهتد إلى الآن. أما الدكتور طه حسين فقد اهتدى إلى مخرج لطيف وذلك إعلانه أخيراً في دروسه بالجامعة المصرية أن القرآن لا هو شعر ولا هو نثر، وإنما هو قرآن)، وأنت ترى في كلامه هذا مثلاً من شروده وعوج تفكيره، لأنه كان يتكلم عن القرآن كنثر جاهلي في زعمه، فانتقل إلى الكلام عن القرآن هل هو نثر أو غير نثر، كأنه لا يرى الفرق الهائل بين الأمرين. ثم استمر يتحدث عن رأي الدكتور طه حسين فقال:(وقد بلغتني عنه هذه الكلمة وأنا في باريس فحسبته يمزح. . . فلما عدت راجعته فوجدته يصر على أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شعر ونثر وقرآن. وقد حسب الدكتور طه أنه ينجو بهذا التأويل! وكان الظن به أن يؤيدنا فيما رأيناه من قدم النثر الفني عند العرب، وأن لا يستكثر علينا أن ننقض بعض ما يرى المستشرقون، وهم يرون بلا حق أن العرب لم تكن لهم ذاتية أدبية، وإنما أخذوا طرائق النثر الفني عن الفرس واليونان)!
فهل رأيت أو سمعت بحمق كهذا الحمق الذي يريد أن ينفي عن العرب تهمة أخذ النثر الفني عن الفرس واليونان فلا يرى سبيلاً إلى هذا إلا أن يسلبهم القرآن كتاباً من عند الله ليرده أثراً جاهلياً يثبت لهم به ذاتية أدبية؟! افترى هذا الرجل يرى القرآن من عند الله أم من عند العرب؟ إذا كان من عند الله فكيف يمكن أن يثبت به للعرب؟ ذاتية أدبية كالتي أراد وليس فيه لعربي منهم حرف؟ وإن كان أثراً جاهلياً يثبت قدم النثر الفني أي نثر