لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد!
على أنه يعود فيتمثل بقول الآخر ملغزاً في (خلخال):
ومضروب بلا جرم ... مليح اللون معشوق
له قدُّ الهلال على ... مليح القد ممشوق
وأكثر ما يُرى أبذاً ... على الأمشاط في السوق!
وواضح أن من السهل إدراج هذا المثل في باب المغالطات المعنوية؛ إذ الأمشاط والسوق المقصود هنا هي تلك المواضع المعروفة من الجسم، ولكن الشاعر غالط في معنى الكلمتين جميعاً، وأتاح له هذه المغالطة المعنوية (المزدوجة) ما يكون من اقتران سوق البيع والشراء في الأذهان عادة بأمشاط الشعر التي تباع فيها، حتى لكان مما أضافه ابن الأثير إلى ذلك قوله: بلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبيات فقال: لقد دخلت السوق فما رأيت على الأمشاط شيئاً!
هذا وإن المغالطة المعنوية في البيت الأخير - بذكر الشيء ومثله - لشبيهة بما سلكه المتنبي من المغالطة في معنى الثعلب بذكر (مثل) له وهو الوجار. فنرى من ذلك أن اللغز ومرادفاته - ومن بينها المغالطة المعنوية - تدور جميعها حول مدلول واحد أو يكاد يكون واحداً. فمحاولة التفرقة بين معاني هذه المترادفات توشك أن تكون تعسفاً لا محصل منه مجهوداً لا طائل تحته
لماذا يلغزون؟
استعمل الفصحاء من قديم هذا الضرب من التعبير الدقيق ناظرنين إلى فوائد فيه، منها رياضة الفكر على تصحيح المعاني واستنباط دقائقها من بطون الألفاظ. ومنها إظهار البراعة في التلبيس والتمويه بتجلية الحق في معرض الباطل وإلباس الممكن ثوب المستحيل. ومنها توليد المعاني الغريبة والتزيد فيها، وابتكار ما يستثير العجب منها في غموضه، والإعجاب بعد تجلينه وإيضاحه. ومنها صون ما يراد صونه من معاني الكلام وحجبه إلا دون من يرغب في بذله إليه؛ وذلك ما يقال له (الرمز) وأصله في اللغة الصوت الخفي الذي لا يكاد يفهم، ثم أطلق على ما خفي من الكلام وأريد طيه عن سائر الناس مع الإفضاء به إلى بعضهم. قال قدامة في نقد النثر: (وقد أتى في كتب المتقدمين من الحكماء