والمتفلسفين من الرموز شئ كثير، وكان أشدهم استعمالاً للرمز أفلاطون
يضاف إلى هذه الأغراض الدنيوية جميعاً غرض آخر متعلق بالدين، هو ما يكون من تجنب الكذب الصراح أو اليمين الكاذبة، مع سلوك سبيل المداراة والإرضاء بالظاهر من القول. وقد جاء في الحديث: رأس العقل بعد الإيمان بالله عز وجل مداراة الناس. وإنما يكون ذلك عند التقية ومخاطبة من تخشى بادرته من حاكم غاشم أو سفيه متهجم. ويسمى ابن دريد ذلك (الملاحق) وقد ألف فيه كتاباً فيما سنشير إليه. ويسميه قدامة (المعارضة) وتعريفها عنده أنها المقابلة بين الكلامين المتساويين في اللفظ. قال: وذلك مثل قول بعضهم وقد سأله بعض أهل الدولة العباسية عن قوله في لبس السواد فقال: وهل النور إلا في السواد! وأراد نور العين في سوادها، فأرضى السائل ولم يكذب
وضرب قدامة مثلاً من المعارضة في القرآن قول مؤذن يوسف:(أيتها العير إنكم لسارقون) وهم لم يسرقوا الصواع، وإنما عني سرقتهم إياه من أبيه
قلت: وشبيه بهذا قوله تعالى على لسان إبراهيم: (بل فعله كبيرهم هذا) يعني أن الصنم الأكبر كان أشدها إغاظة له لما رأى من زيادة تعظيمهم إياه وأقوها - تبعاً لذلك - حملا على التحطيم (والفعل كا يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه) - ففي الآية أسلوب تعريضي جمع بين تبكيتهم، والتبرؤ من الكذب بإسناد الفعل ظاهراً إلى الصنم
وليس بعد هذا النوع من المعارضة كذباً بوجه، إذ كان من مأثور قولهم:(في المعاريض مندوحة عن الكذب). والصدق في اللفظ غير مراد لذاته، بل لدلالة فيه على الحق، ومعونة منه على بلوغه. وقد أزال الغزالي ما لعله يتبقى من الشبهة في استعمال (المعاريض) بقوله في شأنها: (الصدق ههنا تيحول إلى النية فلا يراعى فيه إلا صدق النية وإرادة الخير؛ فمهما صح قصده وصدقت نيته وتجردت للخير إرادته، صار صادقاً كيفما كان لفظه)
هذا لم يتفرد متصوفة المسلمين بالأغراب والتعمية في أقوالهم - تقية منهم ومداراة للعامة وظلمة الحكام - وإنما شاركهم في ذلك أهل التصوف من سائر الملل. وسبق هؤلاء جميعاً أهل التفلسف من قدماء الأمم. وقد مرت عبارة قدامة في رموز أفلاطون، والقفطى في كتابه:(إخبار العلماء بأخبار الحكماء) يقول عن أفلاطون هذا إنه ألف كتباً كثيرة مشهورة في فنون الحكمة وذهب فيها إلى الرمز والإغلاق