(من الألحان والنغمات ما تسكن سورة الغضب، ويحل الأحقاد، ويوقع الصلح، ويكسب الألفة والمحبة. فمن ذلك ما يحكى أنه في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان وكان بينهما ضغن قديم، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد، والتهبت نيران الغضب، وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهراً في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن ثورة الغضب عنهما، وقاما فتعانقا وتصالحا. ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تسمى (المخزن) وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت وتبكي العيون وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السرائر، إصلاح الضمائر. وكانوا قد استخرجوا لحناً آخر يقال له (المشجع) كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب، يكسب النفس شجاعة وإقداماً. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر كانوا يستعملونه في المارستانات يخفف ألم الأسقام عن المريض. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند المصائب والأحزان يغرى النفوس ويسكن الحزن. واستخرجوا لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبنائون وأصحاب المراكب يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس. ولكل أمة من الناس ألحان ونغمات يستلذونها لا يستلذها غيرهم مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والعادات. . .)
وقد وجدت عند صاحب كتاب (إنسان العيون) المعروف بالسيرة الحلبية هذه المقالة وهي جديرة بالرواية:
(قد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار. . . ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع. وعن أبي بشر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون فلم ينكر عليهم. وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر. وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه (صلوات الله وسلامه عليه) بالأصوات الطيبة مع الدف ويغيره. وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف، ولو فيه جلاجل، لما هو سبب لإظهار السرور)