ولأبي محمد الحريري طرائف معجبة من الألغاز والأحاجي، ومقامته الثانية والثلاثون - وتسمى الطيبية أو الحربية - تدور جميعها حول فتاوي فقهية ملغزة ينسبها إلى فقيه العرب، وفقيه العرب عنده هو بطل مقاماته المشهور - وشيخ المكدين - أبو زيد السروجي. . . وضع على لسانه جواب مائة مسألة ملغزة ألقيت إليه في علم الفقه، ما بين طهارة وصلاة وصيام وحج، ومعاملات مختلفة من بيع وشراء وقضاء وأحكام وزواج وطلاق. . . والمقامة مشهورة يتيسر للقارئ أن يراجعها في مصدرها
وهنالك مقامات ثمانٍ أخر تدور جميعها حول الألغاز والكنايات وما يجرى مجراها، وهي بحسب ترتيب موضعها وأرقامها من الكتاب: الثامنة المعرية، ١٥: الفرضية، ١٩: النصيبية، ٢٤: القطيعية أو النحوية، ٣٥: الشيرازية، ٣٦: الملطية، ٤٢: النجرانية، ٤٤: الشتوية أو اللغزية
وقد سبق الحريري أستاذه بديع الزمان بمقاماته الثلاث في فن الألغاز وهي: الصفرية التي وصف فيها الدينار إلغازاً، ثم العراقية والشعرية في الألغاز عن أبيات من الشعر
ضروب أخرى من اللغز:
إذا تركنا الملاحن والمعاريض وفتيا الفقيه جانباً، ثم نظرنا إلى اللغز من وجهة طرائق الأغراب فيه، وجدناه ضروباً. . . قال ابن الأثير: منه المصحف ومنه المعكوس، ومنه ما ينقل إلى لغة من اللغات غير العربية. وضرب مثلاً للأخير يقول القائل: اسمي إذا صحفته بالفارسية (آخر). فهذا شخص اسمه تركي وهو دنكر - بالدال والنون - و (آخر) بالفارسية (ديكر) بالياء، فإذا صحفت هذه الكلمة بجعل يائها نوناً صارت (دنكر) وهو الاسم المطلوب
وقد وجدت قريباً من ذلك في كتاب الله ما قصه عن بني إسرائيل في قوله تعالى:(وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون)
فقد أمروا بأن يقولوا حطة - أو ما في معناها - من كلمات التوبة والاستغفار؛ والمعنى حط عنا ذنوبنا حطة. فأبدلوها ظالمين مستهزئين وقالوا (حنطة) وقيل قالوا بالنبطية (حطا