فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه فقبلت كتابه وحمت لوقتها سروراً به وغلب الفرح على قلبها فقتلها)
ونحن لا تهمنا العلة التي ماتت بها الجدة ولا فرق لدنيا إذا كانت هذه العلة هي الفرح أو الحزن أو أية علة أخرى ما دامت قد ماتت قبل أن يراها ابن ابنتها وبعد أن أوشك أن يراها، وقد كان المتنبي وهو الشاعر الحساس الملتهب الشعور المتأجج القلب كان حرياً به أن يخلد هذا الموقف الرائع بمثل ما خلوه به من الشعر الذي لا نزال نحس فيه أحزان المتنبي وآلامه، والذي لا يزال على تطاول العهد به مضرب المثل في الأسى العميق والشجن الدامي، ومن ذا الذي لا يهزه هذا القول:
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمثواها التراب وما ضما
وإذا كان المتنبي ينادي بأنه نحن إلى الكأس التي شربت بها جدته فما كان ذلك لأن هذه الجدة قد ماتت وملكه عليها الحزن فحسب، بل كان ذلك لأن نفس المتنبي كانت في ذلك الحين قد امتلأت هموماً، ولأن الزمن كان قد جرعه أمر الغصص، ولأنه كان قد رأى بعينيه انهيار آماله في الحياة وأهل الحياة، ولأنه كان قد وصل إلى حال أصبح يحن معها إلى ورود كأس المنية، ثم فوجئ بموت القلب الذي كان يرى أنه وحده يخفق بحبه، وأنه وحده الذي يستروح إليه ويعتمد عليه فصاح من أعماق قلبه في ساعة يائسة (أحن إلى الكأس التي شربت بها)
وهاهو نفسه يزيد هذه الفكرة وضوحاً وجلاء فيقول:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
فهو قد قاس من صروف الليالي ما جعله سيئ الظن بها وما جعله لا يترقب منها إلا الشر، فلما أتته هذه الداهية لم يفاجأ بها ولم تزده علماً بما يحمله له الزمن من خبايا المصائب والمحن. ثم هو ذا يمعن في الإيضاح والجلاء فيصور خيبة أمانيه وتلاشى أحلامه، فلا ولاية ولا سلطان ولا حشم ولا اتباع بل حظ عاثر ويأس قائل:
طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت بها قسماً
وهكذا بعد أن طوف في البلاد وراء (الحظ)، فاته هذا الحظ وفاتته كذلك هذه الجدة الرؤوم ونحن نلمس في عجز البيت خساً من الندم الخفي على تلك المغامرات والضرب في