الفلوات وراء الحظ المنشود وتلمس روحاً من الأسف المكبوت على أن لا يكون قد قنع فلم يجازف ورضى فلم يندفع، وعلى أن لا يكون قد عاش إلى جانب تلك الجدة خلى البال من المطامح بدلا. من أن يعيش إلى جانب أولئك الذين لم يعرفوا حقه ولم يجيبوا سؤله، ولا أدل على هذا الندم والأسف من البيت الذي يليه:
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
ولا نريد أن نسترسل في النظر بهذه القصيدة، وإنما نكتفي بالقول إنها صورة حية لما كانت عليه نفس المتنبي من الحزن والكمد، وإنها مظهر واضح لما كان فيه من التبرم بالناس والحياة وأن وفاة جدته كانت مفجراً لعاطفته، فأرسل نفسه على سجيتها فبكى فيها بكاء مراً:
حرام على قلبي السرور فإنني ... أعد الذي ماتت به بعدها سما
وما انسدت الدنيا على لضيقها ... ولكن طرفا لا أراك به أعمى
فوا أسفا أن لا أكب مقبلا ... لرأسك والصدر الذي ملئا حزما
وتحدى الناس تحدياً صارخاً:
لئن لذ يوم الشامتين بيومها ... فقد ولدت مني لا نفهم رغما
تغرب لا مستعظما غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالفه حكما
يقولون لي ما أنت في كل بلدة ... وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يسمى
كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوب إليه من معادنه اليتما
واستهتر بالدنيا وما فيها:
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
هذا هو أثر المرأة الأم، أو على الأصح المرأة الجدة، في شعر المتنبي، فما هو أثر المرأة الزوجة والمرأة الحبيبة في حياته وشعره؟
إذا كان قد وجد بين المؤرخين من يذكر أم المتنبي فيقول إنها همدانية من صلحاء نساء الكوفة، فإنه لم يوجد بينهم من يذكر زوجته أو يتحدث عنها بشيء، فنحن لا نستطيع أن نعرف في أي زمن تزوج المتنبي، ولا في أي طور من أطور حياته، ولا في أي بلد من البلاد التي نزلها، بل إن الغموض ليكتنف هذه النقطة من تاريخه كل الاكتناف، وليس لدينا