فصاحب النثر الفني يثبت هنا ما كان قد نفى وأنكر هناك من وجود نثر جاهلي صحيح عرفه القدماء الإسلاميون وتدارسوه، واستنتجوا منه ما استنتجوا، وحكموا عليه وله بما حكموا. وهو بهذا يهدم كل ما بنى ورتب على فقد النثر الجاهلي من نحو إهماله آراء القدماء وحكمهم في نثر الجاهلية، واضطراره إلى الرجوع إلى القرآن لاستنباط صفات ذلك النثر، بقطع النظر عن رأى صاحب النثر الفني في القرآن. أما كيف، وقد كان ذلك النثر موجوداً مدروساً في القرون الثلاثة الأولى، أمكن أن يندثر ويضيع في القرن الرابع والقرون بعده، فذلك ما لا فائدة في التسآل عنه أو النظر فيه عند صاحب الكتاب
وموقف صاحب الكتاب من أمية العرب في الجاهلية يشبه موقفه من النثر الجاهلي، فهو يقضي فيها بما يلائم غرضه في كل مقام. إذا أراد أن يهدم ما بناه الأقدمون على أمية العرب شكك فيها ثم نفاها، حتى إذا أراد أن يحتج لبعض مزاعمه التي ينقضها نفيه الأمية عن عرب الجاهلية أثبتها وأشاعها
فهو يشكك فيها حين يريد أن يثبت لهم أدباً مكتوباً في الجاهلية إذ يقول:(وهذا الذي أقوله يحملنا على الشك في التقاليد التي جرى عليها الباحثون من أن العرب كانوا أميين بدرجة خطيرة، وأنهم لذلك لم يحفظوا عن طريق الكتابة شيئاً يستحق الذكر من قصائدهم وخطبهم ورسائلهم)
وهو ينفيها عنهم حين يثبت لهم في الجاهلية علوماً ونهضة لا تقوم إلا على الكتابة والكتاب كما ترى في قوله:(وظهور كتاب كالقرآن في أي لغة يدل على أنها تعدت طور الطفولة منذ أزمان، واللغة حين تصل إلى عهد القوة والفتوة لا تخلو من باحثين يهتمون بتقييد ما يعرض للأساليب من القوة والضعف والوضوح والغموض) ص ٤٨ وفي قوله: (وإنما أرجح أن يكون العرب في جاهليتهم عرفوا النحو وعرفوا غيره من العلوم الأدبية. ألسنا نرى القرآن يجري على نمط واحد في أوضاعه النحوية لا يختلف في ذلك إلا باختلاف رواته من القبائل المختلفة) ص ٥٥
وفي قوله:(ونتيجة ما سلف أن العرب في جاهليتهم اهتموا بالنثر الفني اهتماماً ظهر أثرء وعرفت خواصه في خطب الخطباء ورسائل الكتاب) ص ٥٦
فاقرأ له واعجب إذ يقول بعد ذلك مباشرة: (ولكن ما عرف عن العرب من إهمال التقييد