للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ما اجترحوا من سيئات ويذكره بخسارة الصفقة وفساد التجارة لمن يريد إصلاح دنياه بفساد آخرته

ومن عجب أن رواة هذه الأخبار لم يصلوا بنا إلى نهاياتها. . . بل كثيراً ما كانوا يضيعون الواعظ في الزحام. . . فلا يوقف له على أثر. . . كل حدث مع واعظ الخليفة المنصور الذي لقيه ليلاً في الطريق فدعاه إلى المسجد فأخذ الرجل يعظه بكلام شديد وحديث طويل وبعد الصلاة طلب الرجل فلم يوجد. . .!

وأكثر ما تكون الحاجة إلى النصح حين تسوء الأفعال ويكثر الانحراف من الحكام. ولكننا نلاحظ في كتب الأدب والتاريخ أن الوعاظ لا يزدحمون إلا على أبواب الصالحين من الخلفاء. . . وعلة ذلك أن الحاكم الصالح أكثر قبولاً للنصح واستماعاً للوعظ من غيره. فالطريق إليه ميسر، والباب إليه مفتوح، والعاقبة مأمونة، والمغبة محمودة. لأنه لا يثور ولا يسخط ولا يغضب حتى ولو أغلظ الناصح في نصحه

وهكذا ليس من الغريب أن نجد جماعة من الوعاظ يزدحمون على باب عمر بن عبد العزيز، ويجدون في ظلاله أمناً. فهو يفرح بهم ويهش لهم ويتلقى الكتب منهم ويحتفظ بها ويشير إليها في مجالسه. فقد كتب إلى طاووس الواعظ كتاباً يسأله عن بعض ما هو فيه. فكتب إليه طاووس: (سلام عليك يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى أنزل كتاباً؛ وأحل فيه حلالا، وحرم حراما، وضرب فيه أمثالاً، وجعل بعضه متشابهاً، فأحل يا أمير المؤمنين حلاله، وحرم حرامه. وتفكر في أمثال الله تعالى واعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، واعتبر بأمثاله والسلام عليك). وطريقة طاووس في هذا الكتاب هي طريقة الفقيه لا الواعظ. وإن كانت تؤثر عنه مواقف ومقامات لم يخش فيها حاكماً ولا مسلطاً. وكثيراً ما حاول الأمراء تقريبه إليهم فكان يعرض عنهم ولا يزداد إلا جرأة في النقد وصراحة في القول. . .

ومواعظ طاووس تجدها في شكل كتب ورسائل يرسلها ولا يلقيها أمام الموعوظ، لأنه كان من أبعد الناس عن مصاحبة الملوك والقرب منهم، وكان واحداً من ثلاثة رجال اجتنبوا السلطان ولم يتصلوا به، والاثنان الآخران هما أبو ذر الغفاري وسفيان الثوري

وكثيراً ما وقف محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر ابن عبد العزيز ينصحه ويعظه، وقد يشتد في النصح وعمر لا يضيق صدره ولا يخرج عن حلمه ويقول الواعظ: (إن الدنيا

<<  <  ج:
ص:  >  >>