للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مشاعر، فهو يثير في النفس شعور الإلف والحنين إلى الماضي، والتعليق بالأمكنة التي لا ريب لها أرواح تعلق بأرواحنا فتحملها على المحبة. والإحساس بالأمكنة وما تحوى من ذكريات ومسرات والآم من أخصب منابع الأدب. ونحن بعد لا نحتاج إلى أن نمارس بالفعل كل التجارب التي نتحدث عنها في أدبنا، وإلا كنا فقراء الخيال. ومن يستطيع أن يزعم أن كاتباً أو شاعراً ما قد بلا بنفسه كل ما يتحدث عنه؟ وهل ننسى أن جانباً كبيراً من آداب العالم أجمع لا يمثل ما عاشه كتابه بالفعل، بل ما ودوا أن لو عاشوه؟ والواقع والخيال يرجعان بعد في الأدب الصادق إلى منبع واحد، هو القلب البشري. وأساس النجاح هو أن يستثير الكاتب فينا إحساساً حقيقياً، سواء أكان ذلك الإحساس التفاته إلى ماض عرفناه، أو تلهفاً إلى مستقبل نود أن نعرفه، أو مزيجاً منهما وإذن فعندما نسمع الشاعر الذي يقول:

ألا أيها الوادي الذي ضم سيله ... إلينا نوى ظمياء، حبيت واديا!

لا نملك إلا أن نهتز، ولو لم نر في حياتنا سيلا ولا وادياً ولا عرفنا ظمياء

والشعر القديم أمس قرباً بالروح الشعرية بحكم موضوعه وصياغته، فالطلل والناقة أحب إلى النفس من القصر والسيارة. الطلل يستثير معنى الغناء، ونحن البشر لا يحركنا معنى أكثر مما يحركنا هذا المعنى. وإن كان من نعم الله أننا ننساه أغلب الوقت، وربما كان في هذه الحقيقة ما يزيده قوة حينما يثار. والناقة حيوان أليف صبور ودود، ولا كذلك الآلة الصماء، وصياغة الشعر القديم كموضوعاته ألصق ما تكون بحقيقة الفن. الشعر الجاهلي يجمع على نحو رائع شاعرية الروح وواقعية العبارة، حتى ترى صورة مادية قريبة مأخوذة من واقع الحياة وقد خلت من كل تكلف فاسد

لقد ابتدأ البعث الشعري في بلادنا إذن بإحياء القديم، ولكن هذا الإحياء لسوء الحظ جنح إلى العصر العباسي، حتى إننا لا نزال إلى اليوم أكثر معرفة ودراسة لأدب ذلك العصر منا للأدب الجاهلي والأموي، وذلك فيما يبدو لسهولة الأدب العباسي ومشقة الأدب القديم، ثم لأننا فيما أعتقد لم نصل بعد من النضوج الفني إلى حيث نؤمن بتلك الحقيقة الكبيرة التي قال بها من قبل الرجل الصادق الذوق السيد المرصفي من أن خير الأدب العربي الجاهلي والأموي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>