للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والتيار الثاني يبتدئ كما قلنا بالمنفلوطي، ذلك الرجل المرهف الإحساس العذب الأسلوب. ذلك الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر. ولقد كان لعدم معرفة هذا الكاتب باللغات الأجنبية معرفة تعمق وإحساس، ما احتفظ لأسلوبه بالسلاسة العربية الصافية. وأما غيره من كتاب هذا التيار فلن تعدم أن تجد في أسلوبهم آثاراً واضحة للتأثر باللغات الأجنبية، وما نظننا في حاجة إلى أن ندل على ما في أسلوب كاتب كبير كطه حسين من تأثر واضح بطرق الأداء الفرنسية

وأما الشعر فقد سبق النثر - كما قلنا - إلى التحلل من سخافات الصنعة اللفظية وتفاهة المادة، وسر هذا التحرر يرجع إلى بعث الشعر العربي القديم من جهة، وإلى طبيعة هذا النوع من الأدب من جهة أخرى، فنحن نلاحظ أن البارودي قد سلك إلى تكوين مذهبه الشعري نفس المسلك الذي سلكه من قبل أبو تمام، فالشاعر العباسي قد كان دائم القراءة للشعر القديم والاختيار منه، حتى قالوا إنه قد ألف ثمانية أنواع من المختارات، ولا يزال بين أيدينا ديوان الحماسة شاهداً بأن هذا الشاعر كان أحسن اختياراً وتذوقاً للشعر منه خلقا له. وكذلك فعل البارودي، فمختاراته تضم جانباً كبيراً من خير ما خلف العرب. وشعر البارودي نفسه شديد الشبه بشعر المتنبي، كما أن شعر صبري باشا يكاد يحكي شعر البحتري، وفي هذه الحقائق ما لا يدع مجالاً للشك في أن نهضة الشعر الحديث عندنا إنما قامت على بعث القديم ومحاكاته

وموضع التساؤل هو: كيف يستطيع شعر يقوم على محاكاة القديم أن يعبر عن حياة جديدة؟

هذه المشكلة سبق أن واجهها الأدب العربي واقتتل حولها النقاد والشعراء، ففي العصر العباسي سخر أبو نواس من الدمن والأطلال وبكاء دعد وإسعاد الرفيق وإلف الناقة، وظنه تجديداً أن يخرج على تلك الأوضاع ليغازل الخمر ويداعب الغلمان ويصف القصور والحدائق. وهذه النظرية وإن تكن لها وجاهة الظاهر، إلا أنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون وجاهة سطحية، فالفن ليس بهياكله، وإنما هو بروحه وصياغته، ولا أدل على ذلك من أننا لا نزال إلى اليوم نؤمن بأن خير ما خلف العرب من شعر هو لا ريب الحنين إلى الديار، وذلك لأن هذا الحنين وإن لم يمت إلى تجاربنا الحاضرة بسبب من واقع الحياة، إلا أنه يرمز في حقيقة الأمر إلى مشاعر إنسانية عامة، لا تزال ولن تزال من أجمل ما نحمل من

<<  <  ج:
ص:  >  >>