مرجع الحكم في هذا هو طريقة إحساسنا بالحياة، وحقيقة مطلبنا من الشعر. فأما أنا فلا أتردد في القول بأن الحياة في صميمها إن هي إلا انفعالات واستجابات، وعواطف وحالات نفسية، وأن الأفكار والمعاني إن هي إلا بلورات صغيرة على سطح الحياة، وكثيراً ما تكون معوقات لجريان الحياة، وإن كانت في أحيان قليلة تساعدها على التعمق والنفاذ
وليس (الإنسان) الراقي هو الذي تستهويه المعاني المجردة والأفكار المبلورة، - كما يعتقد الكثيرون - ولكنه الإنسان الذي يتعمق حسه أدق المشاعر وأجلها، والذي يدرك نبضات الحياة وانفعالاتها، والذي يتخذ من ذلك كله غذاء لحسه وفكره جميعاً
والشعر هو نبضة قلب قبل أن يكون لمعة فكر؛ وهو خفق حياة، قبل أن يكون فكرة ذهن، وهو حالة نفسية قبل أن يكون قضية فكرية؛ وهو ظلال إنسان قبل أن يكون التماع أفكار، ووسوسة أفئدة قبل أن يكون رنين ألفاظ
فإذا نحن نظرنا إلى الشعر العربي بهذه العين في مجال الشعر وجدناه فقيراً في الظلال الإنسانية والحالات النفسية بمقدار ما هو غني بالأفكار والمعاني والاستجابات الحسية المباشرة التي لا تتعمق النفس الإنسانية إلى مدى بعيد
والتعبير العربي - وبخاصة في الشعر - تعبير مباشر أقرب ما يكون إلى الاستجابة الحسية، فهو يؤدي الفكرة أو المعنى، ثم لا تلمح وراءه مخلوقا إنسانياً. إنك تلمح ولاشك فكراً وحساً، ولكن المخلوق الإنساني الذي يشتمل الفكر والحس ويشتمل بجوارهما حياة آدمية كاملة قلما تلمحه وراء التعبير العربي
ولقد خيل إلي مرة أن هذه اللغة نبتت في الظهيرة على صحراء مكشوفة. فهي لا تلقي حولها ظلا. ليس هناك ما يسمونه (بين السطور) كل لفظ وكل تعبير يقابله معنى أو فكرة، ثم لا شيء وراء المعنى ووراء الفكرة. لا ظل. لا صورة. لا رؤى في الضباب غير مميزة الملامح بينما تثير في النفس شتى التخيلات وشتى الاهتزازات
وبمقدار الغنى في الأفكار والمعاني الذي تضمنه الشعر العربي، كان الفقر في الرؤى والأحلام، وفي الصور والظلال، وفي الحالات النفسية، والملامح الإنسانية؛ وهذا هو مفرق الطريق بين الشعر العربي وكثير من الشعر العالمي في مجموعة (العرائس والشياطين)
حتى شعر الغزل عند العذريين وغير العذريين، قلما تجد فيه وراء اللفظ إلا المعنى، ووراء