التعبير إلا الفكرة. قلما تلمح الحالة النفسية والملامح الإنسانية، قلما تتسمع الوسوسة والهينمة التي لا تعرف مصدرها، ولا تدل عليها الألفاظ بذاتها، ولكن تدل عليها الظلال التي تلقيها الألفاظ وتتوارى خلف التعبيرات.
إن بيتين ساذجين بسيطين كقول مسلم بن الوليد (فيما أذكر) وقد حضرته الوفاة وهو وحيد غريب وليس حوله إلا نخلة بجرجان يناجيها فيقول:
ألا يا نخلةً بالسّفحِ ... مِن أكناف جُرْجان
ألا إني وإياك ... بجرجان غريبان
إن هذين البيتين لهما نموذج راق في الشعر العربي، وهو نموذج متواضع بالقياس إلى الشعر العالمي، ولكنه كذلك نموذج نادر!
فماذا في هذين البيتين الساذجين. فيهما أن المعنى والفكرة يتواريان ليفسحا المجال للصورة الإنسانية والحالة النفسية. صورة الإنسان الغريب المفرد تقربه الغربة من كل مخلوق، ويرهفه الانفراد إلى الأنس بكل كائن، وخلع الحياة عليه ومعاطفة القريب للقريب
وعلى هذا النحو ينبغي أن ننظر إلى الشعر، على أساس ما يثير في نفوسنا من أحاسيس، وما يرسم لخيالنا من صور، وما يطلقنا من أعيان الفكر المحسوسة المحدودة، ويصلنا بصور الإنسانية وبالحياة المكنونة. وذلك فيما اعتقد واجب شعراء الشباب
ولكن حذار أن نفهم من هذا ما يفهمه بعضهم من تلك الفوضى. إن الشعر - مع هذا - ليس تهيؤات مخبول، ولا تهاويل مذهول. والحالات النفسية المطلوب تصويرها، ليست هي خلط المجانين، وتداخل الاستعارات وتراقص التعبيرات. إن بين الشعر وبين هذه التهيؤات والتهاويل لبعداً سحيقاً، فإذا لم يكن بد من هذا البلاء فلا، والشعر العربي القديم بحسيته وتجريده أقوم وأهدى، وأخلد فناً
وإلى القراء بعض الأمثلة الحاسمة بين المعاني والأفكار، وبين الحالات النفسية والصور الإنسانية في قطعة من مجموعة العرائس والشياطين، للشاعر الإنجليزي الحديث (هوسمان) بعنوان (إلى السوق أول مرة) وليست هي بأغنى ما في هذه المجموعة من هذا الرصيد