(ولو تتبعنا آثار الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر لرأيناهم يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغني فيها النثر شيئاً؛ فبديع الزمان يمضي في رسائله ومقاماته ناثراً، ثم ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد. وقد رأينا عبد العزيز بن يوسف يراسل الصاحب بن عباد فيبدأ خطابه ناثراً، ثم يميل إلى النظم ولا يفوته أن يعلل ذلك فيقول: ابتدأت أطال الله بقاء مولاي الصاحب بكتابي هذا وفي نفسي إتمامه نثراً فمال طبعي إلى النظم، وأملي خاطري على يدي ما كتبت ونعم المعرب عن الضمير مضمار الفريض:)
هذا اقتباس طويل، أليس كذلك؟ لكن لا بأس بطوله ما دام يعين على ما نحن بصدده من ضرب المثل لعدم الدقة عند صاحب الكتاب في أكثر من ناحية
وأول ما يلفت من كلامه هذا هو بعد ما بين أوله وبين آخره، أو ما بين رأيه وبين استشهاده على ذلك الرأي، فرأيه عبر عنه بصيغة القصر والحصر:(مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر). . . (يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغنى فيها النثر شيئاً). . . فهو هنا لم يدع لاشتراك النثر والشعر موضعاً، لكنه فيما استشهد به يخبرك عن بديع الزمان في رسائله ومقاماته إنه (ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد) فهل كون الشعر عندئذ أقرب إلى ما يريد بديع الزمان معناه أن النثر لا يغني شيئاً عن الشعر في ذلك الموضع؟ أم معناه، أن النثر قريب إلى ما يريد البديع ولكن الشعر أقرب، حتى في رأي صاحب الكتاب؟ فرأي صاحب الكتاب في الآخر غير رأيه في الأول، أو دعواه على بديع الزمان في الآخر تقصر عن دعواه في الوسط وعن تفرقته بين ما لا يصلح له إلا الشعر وما لا يصلح له إلا النثر في الأول. ولا أريد أن أسمي هذا تناقضاً، ولكنه تقصير في الفهم وتقصير في التعبير، فيما يتعلق ببديع الزمان وفيما يتعلق بعبد العزيز بن يوسف
ومع ذلك قد نفى صاحب الكتاب في صفحة ٢٦ عن عبد العزيز بن يوسف أن يكون جيد الشعر (والقطع التي وصلت إلينا من شعره باردة الأنفاس) في قول صاحب الكتاب، مع أنه قد أدخله قبل في (الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر)، كما رأيت. وإذن فقد استشهد به، على علات تلك الشهادة، ثم كر عليه بما يبطل شهادته في صلاحية الشعر حيث لا يمكن