والخطب الوعظية أو الحماسية في الصدر الأول، وبعد الصدر الأول، لها من القلب والشعور أكبر النصيبين، ولم يمنعها ذلك أن تؤثر ويذكر بها أهلها مدى الدهر، فأين هو ذلك الحسم الذي ادعاه صاحب الكتاب لكلمته تلك؟ إنها كلمة مبهمة، لا حسم فيها ولا فصل، فهي مثل للتقصير في النظر، وعدم الدقة في التفكير وفي التعبير
على أننا سنفرض أن صاحب الكتاب أراد بذلك الذي سماه اتصالاً بالمشاعر والعواطف والقلوب، على أقل تقدير علاقة الحب. فهل تظنه حتى في هذا كان أدنى إلى الدقة في بحثه والاحتراس في التعبير، فلم يسو بين النثر والشعر في هذا الباب؟ إن كنت تظن هذا فاقرأ له ما كتب في صفحة ١٥٧ في فصل النسيب:(وفي القرن الرابع يظهر الغزل في النثر ظهوراً رائعاً بحيث يمكن مقارنة الرسائل الغرامية بأقوى قصائد التشبيب، ولا يمكن الارتياب في قدره كتاب القرن الرابع على إجادة هذا الفن وتفوقهم فيه وتصرفهم في ضروبه تصرف المبدعين). فأين ذهبت إذن تلك الكلمة الحاسمة وذلك الرأي الذي لم يسبق صاحب الكتاب إليه؟ أم هو مجرد كلام يثبت باسم البحث في صفحة ٢٦ وينفي باسم البحث أيضاً في صفحة ١٥٧؟ وإذ كان صاحب الكتاب لا يستطيع الاحتراس والتزام الدقة حتى في أضيق الدوائر وأظهرها وأقربها إلى ما ألف وألف الناس، فمتى يرجى منه أن يقوم بما يوجبه البحث من الدقة والاحتراس والاحتياط؟ ولا تنس أن عبارته هذه قد كتبها وهو يبحث عن خصائص النثر الفني في القرن الرابع، أو هكذا على الأقل قد ترجم للباب الثاني من الجزء الأول من كتابه، فلا يمكن أن يعتذر له عنها بالمبالغة أو بالتحمس كما يعتذر للناشئين، لأن النثر الفني في القرن الرابع هو موضوع بحثه الأصيل، وما عدا ذلك فهو ملحق به محشور فيه. فإذا كان هذا الرجل جاداً في بحثه، يعتقد بما يقول وما يقرر، فلماذا لا يطبقه؟ وإن كان يطبقه فلماذا لا يتعلم كيف يحسن التطبيق؟