والكأس لا يمكن أن يعد ذكرها من باب الغزل بحال، حتى لو كانت من خمر تغتال العقل؛ فكيف وهي من معين لا يصدح ولا يغتال كما أخبرنا الله سبحانه في الآية التي بعدها ليحول بين العقلاء وبين إنزال نعيم الآخرة منزلة ما يألف الناس في الدنيا، وليبطل إفك آفك إن زعم أو أراد أن يزعم أن الآية من الغزليات أو الخمريات. وما هي الآية التي بعدها؟ هي قوله تعالى:(لا يُصَدَّعون عنها ولا يُنزِفون). واسأل صاحب النثر الفني - البحاثة المتجرد عن الهوى - لماذا لم يذكر هذه الآية عقب أختها ليتم المعنى وليكون القارئ على بينة من الأمر وهو يقرأ لصاحب الكتاب إفكه المبين؟
لقد عرف صاحب الكتاب أن ذكر الآيتين معاً يفسد معناه ويفوت عليه غرضه. وغرضه أن يوقع في نفس القارئ أن الوصف وصف مجلس شراب كالمعروف في الأدب الخليع، إذ ماذا تنتظر من شرب بين خمر وولدان؟ فهذه هي القرينة الوحيدة التي أراد زكي مبارك أن يأتفكها ليصح له أن يقول إن آية (يطوف عليهم ولدان مخلدون) هي من باب الغزل والنسيب، وليوحي إلى القارئ أن ما سماه بعد في نفس الفصل بغزل المذكر كان معروفاً عند العرب، أو سيكون معروفاً في الجنة، أو ما شاء الشيطان أن يسخر صاحب الكتاب لنفثه وبثه في الصدور والنفوس. فان لم يكن هذا من مقصود صاحب الكتاب ومراده؛ فليخبرنا وجهاً آخر يمكن أن تدخل به تلك الآية في الغزل والنسيب بأي شكل أو على أي احتمال، مع أنه ليس فيها إلا مجرد لفظ الولدان، وليس فيها من وصفهم إلا أنهم (مخلدون). فليسوا من ولدان الدنيا التي علم منزل القرآن سبحانه أن سيجعل الشيطان لبعضهم أوصافاً لا تليق، فنزههم سبحانه عن تلك الأوصاف بقرينتين مانعتين: وصفهم بالتخليد، ووصف ما يحملون من شراب بأنه ليس مما يصدع الرأس أو يغتال العقل، وذلك فضلاً عن القرائن الأخرى المنبثة فيما قبل هاتين الآيتين وما بعدهما من الآيات.
وبعد فإن من أعجب عجائب القرآن الكريم وأروع مظاهر إعجازه أن تأبى آياته الكريمة هذا الإباء على من يبغيهن عوجاً، أو يبتغي لهن نقصاً، كهذا الذي أراد أن يجعل منهن غزلاً ونسيباً، وقد أكرمهن الله ونزههن وأعزهن أن يكون بهن غزل أو نسيب. ولو أفلح زكي مبارك أو غيره في مثل ما ابتغى وبغى، لكان ذلك الغزل والنسيب من كلام البشر، ولما كان القرآن هو القرآن الذي وصفه الله سبحانه بقوله: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه