مما يفهم من ذلك ضمناً أن هناك من سبقوا المصريين في بعث القديم والترجمة، كالمستشرقين في أوربا، وكما وقع في سوريا بعد أن وفدت عليها البعوث التبشيرية من البروتستنت والكاثوليك، فقد أسسوا أول مطبعة في أوائل القرن السابع عشر، أي قبل أن يؤسس محمد علي باشا مطبعة بولاق بنحو قرنين، كما أسس الآباء اليسوعيون مطبعتهم في منتصف القرن التاسع عشر فبعثوا بما طبعوا كثيراً من الكتب، وقد كان المترجمون في مدرسة الطب في أبي زعبل من السوريين والأرمن والمغاربة - كما قدمنا - وعلى أيدي أولئك المبشرين تعلم أولئك المترجمون، وبدأت ترجمتهم وبعثهم القديم في مصر سنة ١٨٢٧؛ فإذا بحثنا عن رفاعة الطهطاوي حينئذ وجدناه في باريس يتعلم مبادئ هجاء الفرنسية لأنه لم يبعث إلى فرنسا إلا في إبريل سنة ١٨٢٦، وعاد إلى مصر سنة ١٨٣١، ولم يهتم ببعث الكتب القديمة إلا في عهد سعيد باشا بعد أن رجع من السودان، فأحيا قلم الترجمة بنفوذه بعد أن مات في أيام محمد علي، وهنا ذكر الشيخ عهده بالمستشرق ده ساسي والمستشرق كوزن وما يقوم به المستشرقون من أعمال قيمة في خدمة اللغة العربية بنشرهم أمهات الكتب؛ فوضع مشروعاً للعناية بتصحيح الكتب القديمة القيمة وطبعها بمطبعة بولاق، وعرضه على سعيد باشا فأجازه)، ونحن نعلم أن سعيداً لم يل مصر إلا في سنة ١٨٤٥، فإسناد الدكتور سبب بعث القديم إلى رفاعة الطهطاوي خطأ بلا ريب، وإلصاقه به إيمانه بأن (نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعني إلى جانب ذلك ببعث القديم العربي) إلصاقه برفاعة ذلك تخرص بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، بل هو يدل على أن الدكتور في مقاله يحوم حومان الصفيين ويحدس حدسهم، ولا يقع وقوع العلماء ويتثبت تثبتهم، وإن كان ما قلناه لا ينفي أن رفاعة قد شد أزر البعث وتوسع فيه وإن لم يكن المبدع له حتى في مصر، ولا ينفي أنه أصبح يؤمن بعد ذلك بحاجة نهضتنا إلى بعث القديم إلى جانب النقل وإن كان ما دفعه إلى هذا البعث تقليده المستشرقين في هذا الميدان إذ كان قد صادف أيام وجوده في باريس علمين من أعلامهم: أحدهما الأستاذ سلفسر ده ساسي مدير مدرسة اللغات الشرقية، وكان واسع الاطلاع في العربية، نشر كتباً عربية كثرة وألف شرح مقامات الحريري المتداول بين أيدينا وقد توفي سنة ١٨٣٨؛ وثانيهما الأستاذ كوزن وقد نشر كثيراً