يضحك - لقد عرفت السر! ليبح كل واحد منكم لي بسنه على انفراد وعليّ عهد موثَّق أن أطويه في صدري! وهنا برح الخفاء وانفرجت الشفاه عما أجنته السرائر! ولكن أستطيع أن أزعم: أن كثيراً مما قيل تبرأ منه شهادات الميلاد!
وإني لأعرف قوماً يجهلون زمن مولدهم! أو قل: يتجاهلونه فلا يحتفلون به، كما يحتفل بعض الناس! ويلذ لهم أن يذهلوا عنه عامدين متعمدين! ومع أن ذلك مغالطة في الحقيقة المرة لا تجدي عليهم شيئاً، إلا أن النفوس تأنس لهذه المغالطة وتسكن إليها!
ولا يصح أن يكون هذا موضع العجب، لأنه فطرة في الإنسان يستوي فيها الرجل والمرأة، فالتعلق بالشباب يعادل التعلق بالحياة، بل الحياة في أنضر عهودها وأبهى مظاهرها، وكل سنة تمر علينا تبعدنا من هذا الشباب المحبب المرموق بقدر ما تدنينا من شيء كريه مقيت هو الهرم الذي يسلمنا إلى الفناء! وإنه ليروعك أن ترى شاعراً زميتاً جاداً صارماً كالمتنبي يبكي الشباب، وهو يرفل في ورقه النّضر ويمرح في ظله السابغ فيقول:
ولقد بكيت على الشباب ولِمّتي ... مُسودّة ولماءِ وجهي رونق
حذراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق
وصدق عمرو بن العلاء في قوله: ما بكت العرب شيئاً ما بكت الشباب، وما بلغت به قدره. كما صدق الأصمعي حين يقول: أحسنُ أنماط الشعر: المراثي والبكاء على الشباب!
وإنك لمستطيع أن تقدر مبلغ حرص الإنسان على الشباب، وحسرته على زواله من هذه النادرة التي حدثت بين الرشيد ومغنّيه إبراهيم الموصلي، مع ما يملك الملوك من وسائل تغنيهم عن الشباب أو تعزّيهم عنه على الأقل: جاء في أمالي المرتضى: أن إسحاق الموصلي حدث عن أبيه إبراهيم. قال: غنيّت بين يدي الرشيد يوماً والستارة منصوبة:
وأرى الغوانيَ لا يُواصلن امرأً ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
فطرب الرشيد واستعاده وأمر لي بمال. فلما أردت الانصراف وجه إليّ كلاماً شديداً وقال: أتتغنى بهذا الصوت وجواريّ من وراء الستارة؟! لولا حرمتك لضربت عنقك! قال إبراهيم فتركت الصوت والله حتى نسيته!
وقد كنت أظن أن كتمان السن والمغالاة في إخفائه من سمات العصر الذي لانت فيه الأخلاق، واشتد الحرص على المتع، وكثر فيه الزور والزيف، ولكني وجدت ذلك سنة