اللاحقين لهما، وبخاصة هيرونداس (يسميه البعض هيروداس) الذي نشر له العالم الإنجليزي كنيون سنة ١٨٩١ سبعة فصول عن ورقة من أوراق البردي موجودة بالمتحف البريطاني. وكل فصل منها عبارة عن حوار بين شخصين أو ثلاثة أشخاص أحياناً من النساء وأحياناً من الرجال، وهو شديد الشبه بفصل من مسرحية، وإن كانت تلك الفصول لم تعد للتمثيل، بل كتبت للقراءة أو الإلقاء. ولقد كان هيرونداس هذا فيما يبدو معاصراً لتيوقريطس. وأشخاص الحوار من عامة الشعب أو من الطبقة الوسطى. فتجد معلم المدرسة وبائع الرقيق والقوادة والجزمجي الشهير. . . الخ. . . والشاعر يصورهم في حياتهم اليومية، وهو يلتمس لحواره أي سبب كان: لقاء في طريق، أو احتكاكا في زحام، أو مساومة على سلعة. وإذا بنا نشهد ساعة من حياتهم بهمومها الدارجة، ومسراتها المألوفة، وشهواتها الصغيرة، وثرثرتها الأبدية التي نعرفها جميعاً في أفراد الشعب، وما يتخلل حديثهم من أمثال وتحيات محفوظة، وشتائم موروثة ومصطلحات لا نفهم لها وضعاً ولا معنى. من أمثال:(بلا آفية) و (يا سيدي لما إنت)، وما إلى ذلك مما يستطيع أن يسمعه القارئ بكل ركن من أركان الحسينية أو البغالة، فنستمع طوراً بعد طور إلى القوادة ذات الناب الأزرق تنقل إلى فتاة مغريات عربيد كبير، أو بائع الرقيق يقص على المحكمة محنة ويطلب إليها العدل، أو أب يتحدث إلى معلم المدرسة عن ولده (الشيطان الرجيم) ويقص عليه (عفرتته) التي لا تنتهي؛ أو نرى بائع الأحذية الشهير يعرض على (مترو) أحذيته الجيدة ويطري البضاعة
فصول المحاكاة لوحات أخلاقية صغيرة، لوحات لا عمق فيها ولكنها تصوير صادق للحياة، وهي وإن خلت من عنصر الدراما إلا أنها مع ذلك تكوِّن غالباً وحدة لها بدؤها ونهايتها. وموضع الجمال فيها هو سذاجتها رما بها من دقة الملاحظة، ثم بقاؤها في مستوى الشعب، فلن تجد فيها أي تداخل من كاتبها. بإحساسه الخاص أو آراءه ومثله، فكأن الشاعر سلبي بحت يستمع إلى من حوله ويرصد ما يستمع، ومع ذلك كم فيها من دقة وصدق وحسن اختيار للتفاصيل الدالة، وقد تتابعت بها دعارة القول وعفة الحياء، وقاحة بائع الرقيق وسذاجة نساء الحارات، مكر بائع الأحذية وتصنع المستهترات.
في هذه الفصول مجموعة كاملة من المشاعر المتوسطة التي نجدها عند عامة الناس،