والشاعر لا يحيد بها إلى التزمت ولا إلى التسامح المسرف، بل يلازم الصدق فهو لا يمتدحها ولا يهجوها بل يصورها كما هي غير متجنب ما فيها من قبح ولا مبالغ فيه. وهو لا يخشى العبارة المسفة ولكنه لا يبحث عنها، كما أنه لا يغدق العطف على ما يجب ولا يصب اللوم على ما يكره. وشخصياته وإن لم تخل من رذائل وقسوة إلا أن تصرفاتهم لا تصل قط إلى حد المآسي الدراميتيكية. وهم بهذا أيضاً يظلون في واقع الحياة. الحياة الحقيقية التي يندر بها الأبطال الخارقون كما يندر كبار المجرمين
ثم إن هذه الفصول وإن كانت تصور نواحي إنسانية عامة إلا أنها تضيف إلى ذلك حقائق تاريخية خاصة بشعب صقلية في ذلك الحين، ذلك الشعب الذي اشتهر منذ القدم بكثرة الحركة وخفة اللسان ومرونة الخلق والنزوع إلى الاستطلاع
ولقد كتب تيوقريطس نفسه كما ذكرنا في نهاية المقال السابق بعضاً من تلك الفصول، ولعل (نساء سيراقوزة) خير مثل يضرب لها. والحوار يجري بمدينة الإسكندرية في يوم من أيام عيد أدونيس وبطلاه امرأتان أتت بهما من سيراقوزة إلى الإسكندرية بعض المهام التجارية فذهبتا إلى العيد حيث لا تنقضي تعليقاتهما على ما يريان، فالحصان الرمادي الضخم يخفيهما وكل منهما تشكو من زوجها وإن كانتا في حقيقة الأمر أميل إلى الطيبة، وهما لا يغنيان ولكنهما يحبان الاستماع إلى الغناء، وبالفعل ينشد أحد المغنيين نشيداً جميلاً لأدونيس وبه ينتهي الفصل. وهانحن بعيدون عن رعاة الجبال وقد انتقلنا إلى المدن حيث تجري الحياة المتواضعة التي لا شعر فيها، ولكننا نجد في صدق التصوير وسذاجته ما يعوض عن الشعر، وإن كان تيوقريطس لم يتمالك من أن يختم فصله بنشيد فيه شذا الشعر الجميل
الشعر العلمي (الأكاديمي)
قلنا من قبل إن الكثير من شعر الإسكندرية كان شعراً مصنوعاً وضعه العلماء بعيداً عن الحياة، ولدينا من هذا النوع الشيء الكثير، فأراتوس يتحدث عن (ظواهر الطبيعة) في كتاب ضخم. وكاليما كوس يقص نسبب الآلهة بمغامراتهم وحوادثهم المعروفة في أسلوب تعليمي في (أناشيده) أو يوضح الأسباب والمسببات في (أصوله) بل ومنهم من أخذ في محاكاة هوميروس فحال أن يضع الملاحم. وأكبر هؤلاء المقلدين هو أبولونيوس الرودسي الذي ألف ملحمة كبيرة يقص فيها رحلة جازون ورفاقه بحثاً عن الجزة الذهبية، ذلك أن