وأنفض الرماد عن قبس خيالك، والصدأ عن صدحة أوتارك، وأبتسم لك ابتسام الزهر والنوار، وأشرق على عباب بحرك الخضم إشراق البدر باهر الأنوار، وأدفئ جنتك بمثل الشمس التي جَرَتْ في فلكك الدَوَّار وأُرْوِها بمائي النمير الجار، وأترددْ في أنفاسك عطراً، وأتبلجْ في ظلام بأسك فجراً، وأرد عليك شيطانك النافر، وأُذُدْ عنك وسواسك الساهر، واسحر لك بنات غابك، وعرائس عُبابك، فتفرش لك طرقات جنتك بأفواف الزهر، ولآلئ البحر، وتمدك بروائع الفكر، ونفثات السحر. . . و. . . و. . .). وما إلى ذلك مما يغازل الأقلام من الشعر، وهي تكتب عن رامي وأم كلثوم
وانتفض فؤاد رامي لذلك الصوت الرؤوف الرحيم انتفاضة هائلة لم تزل تتردد ملء أضالعه عشرين عاماً، وأحسبها سوف تتردد فيه حتى يشيخ رامي، وحتى يهرم معه أناس آخرون
لقد رأينا كيف عز على رامي أن يصمت هذا الصمت الذي أفزعه وشغل باله، وهو شاعر الإنسانية الحزين الذي يقول:
وأسأل أسراب الدموع فصغتها ... صوغ المعاني في شجيّ نظامي
وأرق إحساسي ومدّ مشاعري ... فوصلت كل الناس في أرحامي
قاسمتهم أحزانهم وحملت من ... أعبائهم شطراً من الآلام
فلما سمع من أم كلثوم هذا النداء الرخيم الندي الرضيّ، خفق قلبه، واستجاب له، وحلت مطربة الخلود عقدة السحر عن لسانه، فأنطلق يصوغ لها أغانيه الخالدة (من أدمعه ودمه وطيب سراره)، وانطلقت هي (توحي إليه من الهوى، قبس الخيال وصدحة الأوتار)
ولقد كان دخول أم كلثوم في حياة رامي ثورة كاملة في تلك الحياة اليتيمة الحزينة الباكية، ولقد استطاعت أم كلثوم أن تلهم رامياً كل هذه الثروة الطائلة من المعاني (البكر!) التي لم يسبقه إليها أحد من الشعراء (فيما نعلم) والتي سجلها في (شعره الجديد) وأغانيه المصرية العذبة التي أنقذت الغناء المصري من الإسفاف الذي تردّى فيه زماناً طويلاً قبل أن يهيئ له الله رامياً، ليجدده، وليهذبه، ولينفي عنه ما كان يشوبه من خيال غث، وتعبيرات رخيصة، وغزل بارد مكشوف؛ مما سنخصص له كلمة مستقلة إن شاء الله