والصبي إذا استطاع أن يعبر الجدول قفزاً دون أن يصيبه البلل ليس له أن يفخر على الرجل إذ يعجز عن عبور النهر إلا سباحة فيقاسي ما يقاسي في عبوره من هول الأمواج والتيارات ووحوش الماء، ولا ينال ما يريد إلا بعد أن يأخذ منه النصب كل مأخذ ويلقى من المتاعب ما لا يخطر للصبي على بال، وما على الصبي إذا يشاء للفخر إلا أن يلقي بنفسه في النهر كالرجل وسيعرف أنه ليس الجدول كالنهر
من أجل هذا نرى أن المنفلوطي ليس من رجال التيار الثاني، فلا يجوز بحال أن نرى ما رأى الدكتور من أن التيار الثاني قد ابتدأ به، ومن أجل هذا كان المنفلوطي من رجال التيار الأول، بل إنه لآصل فيه من بعض من يظنهم الدكتور أصلاء فيه، وخاصة الرافعي وعلى وجه أخص الزيات؛ فإن الزيات أدنى منه إلى رجال التيار الثاني وأشبه بهم منه
ولطالما هجم الزيات على أعقد مما اضطرب فيه المنفلوطي من المشاكل الفكرية، ومع محافظته على اطراد آرائه واتزان خطاه وصفاء فكره وخصائص شخصيته - استطاع أن يحتفظ لتعبيره بطلاوته وأناقته وإشراقه على النحو الذي يفهمه من بلاغة أسلوب التعبير في اللغة العربية، كما أبان لنا عنه في مقالاته حين تعرض للدفاع عن البلاغة
وإنه ليبلغ من بلاغة التعبير ما يريد دون أن ينسى أو ينسيك المشكلة التي تعالجها، أو يخدعك بجمال الصياغة عن الموضوع الذي يحدثك به، وما هكذا المنفلوطي؛ فإنه ليبلغ منه الحرص على جودة التعبير أحياناً مبلغاً يخرجه حتى من رجال التيار الأول المحتفظين بجمال الصياغة، مع احتفاظهم بوضوح شخصيتهم وخصائص أمزجتهم والصدق في إحساسهم والجد في تفكيرهم - ويدنيه إلى الفئة الذين كل همهم أن يخدعوك عن ثقافتهم بحلية لفظية زائفة كرجال العصور الإسلامية المتأخرة أمثال الحريري وأبن زيدون والقاضي الفاضل والوطواط وابن نباتة والصفدي وابن حبيب الحلبي والجبرتي والشرقاوي وغيرهم ممن تخلو كتاباتهم الأدبية من كل فكر جاد وإحساس صادق. ونقول يدنيه منهم ولا نقول يضعه فيهم، لأن المنفلوطي - مهما يسف - لن ينحط حتى يكون مثلهم، ولن يتهافت حتى يبلغ مبلغهم من التفاهة والسخافة والفسولة، ولكنه كثيراً ما نزق مثل نزقهم، وإن كان أرفع منهم أفقاً وأقوم فكراً وأصدق حساً. فظهر كالمشعبذ مثلهم، ولو أن شعبذته من صنف أرقى وأدق وأعمق