به من شاء الترجمة الشفافة من أي لغة أجنبية إلى العربية، بل كان المنفلوطي يضيف إلى العراقيل السابقة عراقيله هو من التشبيهات والكنايات والمجازات والاستعارات العربية التي يستمدها من أساليب الأقدمين، وإنها لرواشم توارثها العرب لاحقاً عن سابق، وهي تمت إلى خصائص عربية بدوية وتصبغ الكلام بصبغة عربية بدوية لا تخطر إلا في بال من عاش في هذه البيئة التي نشأت فيها تلك اللغة وتلك الأساليب مما لا يتصوره ذهن غربي ولا يلوكه لسان غربي ولا يوجد في لغة غربية
أما ما كان يضعه المنفلوطي، فقد كان حرصه فيه على جودة التعبير كما يفهمها هو من حيث البلاغة العربية أكثر منه فيما يترجم؛ فقد كانت الترجمة تمده بالفكر والإحساس، فلا يبقى له إلا التعبير، أما ما وضع، فالفكر والإحساس فيه له وحده. وإنه لفكر ركيك وإحساس إما فاتر وإما حار، ولكن المبالغة فيه تبعث الإنسان على السخرية أكثر مما تبعثه على المشاركة فيه والعدوى به
يرى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أن الترجمة خير محك للكلام الجميل، فالجميل في لغة جميل في غيرها، والرديء في لغة رديء في غيرها، ونحن مع ذلك نعتقد أن الكلام في نقله من لغة إلى أخرى يفقد كثيراً من جماله، ولكن الأفكار والأحاسيس يستطاع نقلها مع المحافظة على جمالها، وليس يضيع في النقل إلا جمال التعبير
فماذا على الدكتور لو أنه نقل جزءاً مما كتب المنفلوطي إلى لغة أجنبية يعرفها ثم نظر فيه بعد ذلك!
أنا واثق أن الدكتور لن يجد بين يديه شيئاً تافهاً أو لا شيء، لأن جودة التعبير هي أبرز فضائل المنفلوطي، وهي شيء يضيع أثناء النقل، فلا يبقى له إلا الفكرة أو الإحساس، وإنهما لشيئان تافهان - هذا إذا كانت هناك فكرة وكان إحساس
وقد لاحظنا أننا نتكلم عن أسلوب التفكير وأسلوب التعبير، فلنلاحظ أنه كلما كانت الفكرة أو الإحساس أو الصورة أدنى إلى السذاجة كان التعبير عنها أيسر، فإذا كان المنفلوطي أيسر فهماً من الرافعي والزيات وغيرهما؛ فمصدر ذلك أنه لا يتعمق في فكره كما يتعمقون، ولا يرهف إحساسه ويصدق كما يرهفون ويصدقون، ولا يجهد نفسه ليرتقي إلى آفاق الفكر العليا والمثل الإنسانية الرفيعة كما يجهدون ويرتقون