للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تناقضاً مع آرائه الصريحة فاعتذر عن هذا الغزل وأعلن حقيقته، وأنه ليس في الواقع الغزل الذي عرفه الناس ونظمه الشعراء، بل هو غزل رمزي يخفي تحته شعوراً غير شعور الغرام، وحباً لغير المرأة، وشغفاً بغير ثناياها الغر وأحداقها النجل، فبعد أن افتتح قصيدة بالغزل المألوف عاد يقول:

محب كني بالبيض عن مرهفاته ... وبالحسن في أجسامهن عن الصقل

وبالسمر عن سمر القنا غير أنني ... خباها أحبائي وأطرافها أسلى

عدمت فؤاداً لم تبت فيه فضلة ... لغير الثنايا الغر والحدق النجل

فما حرمت حسناء بالهجر غبطة ... ولا بلغتها من شكي الهجر بالوصل

وهو في بيته الثالث عنيف متشدد وفي بيته الأخير مستهزئ بلذائذ الوصال مستهتر بالهجر لا يرى أن غضب الحسناء وهجرها يمكن أن يحرم المرء أية غبطة ولا أن وصلها يمكن أن يجلب أية سعادة وهذه أقسى مظهر من مظاهر آرائه الصلبة. على أننا لا نستطيع أن نجرد جميع غزله من العاطفة والشعور فلا شك أن في القليل من بعضه عاطفة جياشة وحساً نابضاً ولكن ليس الحب وليست المرأة هي مصدر ذلك، بل هي ذكريات أيام سوالف وأشواق إلى منازلة نائية وأهل بعيدين كأن يقول:

ما لاح برق أو ترنم طائر ... إلا انثنيت ولي فؤاد شيق

أو يقول:

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ... إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا

فيا شوق ما أبقى ويالي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى

أو يقول:

ليالي بعد الظاعنين شكول ... طوال وليل العاشقين طويل

يبن لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه سبيل

وما عشت من بعد الأحبة سلوة ... ولكنني للنائبات حمول

إذا كان شم الروح أدنى إليكم ... فلا برحتني روضة وقبول

وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزول

وما أدرانا أن لا يكون وهو يرسل هذا الشعر وأمثاله إنما يذكر تلك العجوز الذي رأينا

<<  <  ج:
ص:  >  >>