الناظر بحلب، فهجا الحاضرون أبا العلاء وأغروا الناظر بدمه، وادعوا أن الغيرة على الدين تبيح قتله، ولكن المؤيد في الدين اقترح على الحاضرين أن يجرد لأبي العلاء من يحاجه ويناظره حتى ينكشف عواره وينحط قدره بين معاصريه، ويتخذ الناظر من هذه المناظرة ذريعة للقضاء على هذا الزنديق الخارج عن الدين، ثم نشط المؤيد لمناظرته تلك المناظرة التي كانت من أسباب خلود المتناظرين
ويخيل إليّ أن المؤيد في الدين لم يسرف في الحكم على أبي العلاء إسراف معاصريه، ولم ير في عقيدة أبي العلاء ما كان يراه غيره، فقد رمى المعري بالإلحاد والتعطيل والخروج على دين الجماعة بل لا تزال عقيدة أبي العلاء إلى يومنا هذا موضع نقاش بين الأدباء والعلماء. أما رأي المؤيد داعي الدعاة في أبي العلاء فقد وضحه في مجالسه بقوله: قد انتهى إليكم خبر الضرير الذي نبغ بمعرة النعمان وما كان يعزى إليه من الكفر والطغيان على كون الرجل متقشفاً، وعن كثير من المآكل التي أحل الله له متعتها. فهذا النص إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن المؤيد لم يقبل كلام الناس في أبي العلاء، ولم يذهب مذهبهم في اتهام دينه، بل هذا النص دفاع عن تحريم المعري للحوم تعففاً منه وتقشفاً
ويخيل إليَّ أيضاً أن غرض المؤيد من هذه المناظرة أن يعرف حقيقة مذهب أبي العلاء، وأن يستوضح أسرار فلسفته وأسرار عقيدته فقد يكون أبو العلاء من الذين يتخذون التقية والستر حجاباً لهم، ويوهمون الناس بغير ما يبطنون ولذلك بدأ المؤيد رسالته الأولى بشيء من الظرف والإعجاب بأبي العلاء، ثم نراه في الرسالة الثانية يسخر بأبي العلاء ويتهكم به، وفي الرسالة الثالثة يصرح بأنه لم يجد عند أبي العلاء ما كان يأمله
أما جواب المعري؛ فيظهر منه أن أبا العلاء قد سمع بأمر المؤيد في الدين داعي الدعاة من قبل، وكان يعرف مقدرته وحجته فبالغ في تعظيمه وتفخيمه، إما خشية على نفسه من سطوة المؤيد وإما تأدباً معه في المناظرة لمركز المؤيد في الدعوة الفاطمية والدولة الفاطمية
ومهما يكن من شيء، فالمؤيد في هذه المناظرة ضيق الخناق على أبي العلاء، وكان أبو العلاء يتلمس الطرق للهرب من خصمه فأخذ يحاوره ويحاول الفرار من موضوع المناقشة وداعي الدعاة من ناحيته يجذبه نحو موضوع المناظرة؛ فسؤال داعي الدعاة كان عن الأسباب التي أدت بأبي العلاء إلى تحريم أكل اللحوم والألبان. فكان جواب أبي العلاء في