هنا صورة نفس، تلقي ظلها على الحياة والأشياء، فتطبعها بطابعها؛ يراها الرائي فتؤثر في حسه، وتنطبع في نفسه، لأنها نفس إنسان، لا تركيبة ذهن. وهنا تشترك طريقة الإحساس مع طريقة التعبير، في التصوير والتظليل، وفي إبراز نفس إنسانية من وراء الألفاظ، ومن بين السطور، على الطريقة التي فصلناها في كلمات سابقات
في ظل هذه الصورة نقرأ قطعة لتوماس هاردي الشاعر الإنكليزي الحديث:(ترجمة الأستاذ العقاد في ساعات بين الكتب)
(إذ طلع الفجر، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة، جدولاً وحقلاً وقطيعاً وشجراً موحشاً، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إليَّ. وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه، فبردت حرارتها، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعاً، ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاء: عجباً! عجباً لا انقضاء له أبد الزمان. ما بالنا نحن نقوم في هذا المكان؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين ولكنها غير قادرة على القصد والترسيم. خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافاً لما تجيء به الصروف؟ أم تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور؟ أم ترانا بقية من حياة إلهية قديمة تموت، فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول، ونحن في جيشها (فرقة الفداء) والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير؟
(كذلك يسألني من حولي ولست أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة)
ونحن نكتفي هنا بتعليق الأستاذ العقاد على هذه القطعة، ففيه أقصى ما نبلغ أن نقول:
(إننا نضرب المثل الأعلى للبلاغة الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له (يعني القارئ الذي تهمه المعاني لا الصور النفسية) هزيلة ضامرة لا تساوي بيتاً من ابن نباتة، ولا شطرة من صفي الدين! لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها (حالة نفسية) تحيك بنفسه، فمثلّها لنا أحسن تمثيل. أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطها الجاهل فيحسبها من غثاثة الفضول. فهو رجل نظر في عبث العواطف وعبث الحوادث وعبث النواميس،