للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والخاصة، فهذه الآثار تذهب اليوم في بعض الأمم إلى إنكار الماضي كله والمثل الفكرية والأدبية والإنسانية كلها.

وهذه الثورات الفكرية والاجتماعية العميقة ترجع كما قدمنا إلى الحركات السياسية والقومية العنيفة التي جاش بها كثير من الأمم عقب الحرب، فقد كان لهذه الحركات أكبر أثر في توجيه التفكير والآداب والثقافة. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نلاحظ مثل هذا الانقلاب العميق في مناحي التفكير والآداب إلا حيثما وقع انقلاب سياسي عميق يقوم على إنكار الماضي ومبادئه وآرائه القديمة. ففي روسيا السوفيتية حيث سحقت الثورة دولة القياصرة والمجتمع الروسي القديم بكل ما فيه من نظم ومبادئ وتقاليد، وقامت نظم سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة البلشفية، نرى التفكير الروسي يتميز بلون ثوري عميق، ونرى نظريات الثورة العالمية، وسيادة الطبقات العاملة، والإخاء الدولي، ونضال الطوائف، وسحق الرأسمالية وغيرها تغمر الأدب الروسي المعاصر، ونرى الثقافة الروسية كلها تتجه إلى غرس هذه النظريات واعتبارها قوام الحياة الروسية العامة، وغذاء التفكير والآداب والفنون. ولم يبق من الأدب الروسي القديم ما يستحق التقدير في نظر روسيا البلشفية سوى آثار المفكرين والكتاب الأحرار والثوريين، مثل ترجينيف ودوستويفسكي وتولستوي والبرنس كروباتكن، تلك الآثار التي تصف شقاء المجتمع الروسي في عصر القياصرة، والتي كانت غذاء للحركة الثورية. وفي تركيا الكمالية نرى نواحي التفكير والثقافة تصطبغ بصبغة غربية جديدة هي أثر مباشر لاتجاه ثورة التجديد التركي ودفعها لتركيا نحو الغرب، بعد أن لبثت قرونا شرقية أسيوية، ونرى زعماء تركيا الجديدة يحاولون أن يخلقوا للشعب التركي عقلية جديدة تقوم على نسيان الماضي وبغض دول السلاطين، وتحقير العصبية الشرقية أو الإسلامية، وتمجيد الإصلاحات الجديدة، والاندفاع وراء التيار الغربي. ويذهب زعماء تركيا الجديدة إلي غرس النزعة القومية والتفكير والآداب إلى حدود الإغراق، فنراهم يغيرون قواعد اللغة التركية وألفاظها ويستبعدون منها الألفاظ المشتقة من لغة أخرى، ويضمون لتركيا تاريخاً جديداً تغفل فبه الحقائق العلمية والتاريخية الراسخة، ويقال لنا فيه إن الحضارة التركية هي أساس الحضارة البشرية، وأن اللغة التركية القديمة هي مصدر اللغات البشرية، وغير ذلك من المزاعم المغرقة التي تنقضها أبسط الحقائق

<<  <  ج:
ص:  >  >>