تعترف بحرية الفكر بل تبغضها وتسحقها بكل قواها، لأنها ترى في وجودها خطراً على كيانها؛ وحرية الفكر أسمى مزايا الإنتاج العقلي والفني، وإذاً ففي ظل هذا الطغيان الذي يسلب الفكر أقدس حقوقه، لا يمكن أن يزدهر التفكير الرفيع، ولا أن تصل الآداب والفنون إلى ذرى القوة والصقل؛ وتغدو الحياة العقلية مطبوعة بطابع التماثل الممل، لأنها تسير وتسخر طبقاً للوحي القاهر. هذا إلى أن التفكير والآداب في هذا الأفق المصطنع قد جردت من أقدس المثل التي استرشدت بها في كل العصور، فأصبحت تمجد العبودية لأنها أسيرة الطغيان، وتمجد الحرب لأنها جردت من المثل الإنسانية الخالصة. وهذه الظواهر هي وليدة الطغيان قبل كل شيء تتجلى اليوم بأوضح ألوانها في ألمانيا على حداثة عهدها بالفاشستية؛ فإن الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية ما كادت تظفر بقلب نظم الحكم في ألمانيا، وإقامة الطغيان على أنقاض الديموقراطية، حتى أخذت تفرض مبادئها ونظرياتها على التفكير والآداب والثقافة الألمانية؛ وهي اليوم تمثل في الحياة الألمانية بقوة، ونظرياتها القومية والجنسية المغرقة تطبع التفكير الألماني في جميع نواحيه العلمية والأدبية والفنية، بل هي تذهب في الجرأة إلى حد محاولة التأثير في العقيدة النصرانية وصبغها بصبغتها. والعلم والتفكير والآداب والفنون في ألمانيا تسخر كلها لخدمة الدعوة الوطنية والاشتراكية وتمجيد مبادئ هتلر، واثبات نظرياته المغرقة في تفوق الجنس الآري على الأجناس الأخرى، وتفوق السلالة الألمانية على سائر المخلوقات؛ واثبات صلاحية الحكم المطلق وفشل الحكم الديموقراطي؛ وتمجيد الخضوع المطلق للزعامة، والانتقاص من قيمة الحريات العامة، وغير ذلك مما تضمنه برنامج الوطنية الاشتراكية (وإنجيل) هتلر. وقد ذهب الوطنيون الاشتراكيون بعيداً في السيطرة على زمام الحركة العقلية في ألمانيا، فبسطوا إشرافهم على الجامعات، وأصدروا تشريعاً يصفد الصحافة ويجعلها مهنة شبه حكومية، ويجعل الكتاب دعاة للوطنية الاشتراكية وطغيانها. وكما أن الفاشستية الإيطالية بعثت إلى الأدب الإيطالي بصور رومة القديمة وذكريات الإمبراطورية الرومانية ومجد القياصرة، وبالطموح إلى إحياء هذه الذكريات والصور في حياة إيطاليا وآمالها، فكذلك بثت الوطنية الاشتراكية في الأدب الألماني مثل الإمبراطورية المقدسة الذاهبة، وصور ألمانيا العسكرية الظافرة الزاهرة تحمل زعامة الجنس الآري كله، وتملي على أوربا القديمة