للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(أسرعوا!. . .). والآن كانوا يصعدون إلى قمة الجبل وهم يجرون المدفع، منبطحين على الأرض، ملتصقين بالحجارة، يحفرون التراب بأيديهم وأظافرهم، يزحفون تارة ويقعون أخرى، يتأرجحون في الهواء. قد تقطعت ملابسهم، وتشققت أيديهم، وتقرحت أعضادهم، وتخلعت أظافرهم. ولكنهم سائرون إلى الأمام دائما، لو استطاعوا أن يخطوا عدة خطوات أخرى إلى الأمام لبلغوا قمة الجبل، ولوضعوا المدفع هنالك، وربما كان هذا المدفع إذ ذاك قائد هذه الفرقة الصغيرة من الجند إلى الفوز والظفر!

كان عثمان في المقدمة، وكان يستطيع الآن أن يشرف على المناظر التي أمامه تماما من مكانه المرتفع. هذه الجبال التي قبالته، وجميع تلك الحصون والمعاقل التي للأعداء. كانت هذه الحصون الصخرية التي تقذفه بالنار واللهب ترى قريبة منه جدا، وكان يخيل لعثمان إنه لو مد يديه لاستطاع أن يقبض على هذه الحصون وتلك المعاقل بيديه القويتين ويضعها إلى صدره القوي المتين، فيسحقها سحقا ويذروها في الهواء. كان العدو قد بصر بهم وجعلهم هدفه، وصوب نحوهم أفواه مدافعه وأخذ يمطرهم وابلا من الصواعق والنيران، ليقضي القضاء الأخير على هذه الشرذمة من الجند الباسل. نظر عثمان إلى أصحابه وتأمل منظرهم فرأى منظرا عجباً. رآهم وقد رفعوا رؤوسهم جميعا إليه كأنهم يحيونه التحية العسكرية. كانت عيونهم متجهة إلى السماء شاخصة كأنها تقول: (إلى الأمام!). ومرة أخرى قال: (أسرعوا!)، وخطا المدفع خطوة أخرى. آه. لو خطوا عدة خطوات أخرى مثل هذه الخطوة لبلغوا قمة الجبل. . .

وعلى حين غرة سقطت بينهم إلى جانب المدفع قطعة كبيرة من السحاب، وبعد لحظة انفجرت هذه السحابة وخرج منها بريق خاطف للأبصار، ومضت فترة لم يستطع عثمان أن يتبين شيئا مما حوله، ثم رأى خلال الظلام المخيم عددا من الجند الساقطين على الأرض. في هذه اللحظة أدرك الحقيقة المرة. وعلم أن العدو - بعد أن نجح في إصابتهم ومعرفة موقعهم - لا يلبث أن يدك هذا الموقع دكاً

كان الموقف حرجاً والوقت ضيقاً لا يسمح بإضاعة دقيقة واحدة؛ فصرخ في أصحابه - وهو يلقي على إخوانه المجدلين على الأرض نظرة كلها حزن وألم ورثاء - قائلا: (أسرعوا!)

<<  <  ج:
ص:  >  >>