انبطحوا على الأرض وجروا المدفع. ولكن يد عثمان استرخت وشعر فوق عضده بشيء بارد. فالتفت بسرعة وحل الحبل عن عضده المجروح وتمنطق به، ثم صرخ في أصحابه يشجعهم ويستحثهم وبذلوا كل ما كان في طاقتهم أن يبذلوه. وتعلقوا بالأرض وتشبثوا بها. إلا أن عثمان في هذه المرة سقط على الأرض وصك أذنيه صوت يقول:(انقطع الحبل!. . .)
فهب واقفا. ورأى وهو لا يصدق عينيه المدفع يتدحرج على سفح الجبل بعد أن أفلت من الحبال التي كانت تمسكه
كان ذهاب هذا المدفع من أيديهم معناه انقضاء كل شيء بالنسبة إليهم ونذير القضاء عليهم قضاء أخيراً
في هذه اللحظة الحرجة ألقى عثمان نفسه على المدفع الذي كان يتدحرج على الصخور وينحدر إلى أسفل الوادي. وتعلق به ولكنه لم يستطع أن يصده ويحول بينه وبين الانحدار فقد كان المدفع ثقيلاً، وكان ثقل المدفع يدفع بجسمه الضعيف أمامه ويجره إلى الوادي العميق المخيف الذي تحته جراً عنيفاً قوياً. فهو تارة فوق المدفع، وتارة تحته، وفي الحالتين ينحدر إلى أسفل الوادي مضطرباً بين الصخور. يجره المدفع إلى حيث الهلاك والدمار. كان عثمان فاقد الوعي، لا يرى شيئا، ولا يعرف شيئا. إلا إنه وهو ينحدر إلى أسفل الوادي بشكل قوي لا مجال لمقاومته - كان يفكر في شيء واحد: ألا يترك المدفع يفلت من بين يديه. . . كان شاخص البصر يحدق تارة في هذه الغيوم التي تكونت من دخان البارود وتلبدت حتى حجبت وجه السماء عن العيون. وتارة أخرى في منظر هذا الوادي العميق المخيف المحفوف بالأهوال. ومرت فترة وهو كذلك، ثم لم ير شيئاً ولم يسمع شيئاً. فقد سكت كل شيء وانمحى من لوح تفكيره. فلم يعد يشعر بتلك الجبال المشتعلة ناراً ولا يفرق العدو التي كانت تمطره وأصحابه وابلاً من الرصاص. لا شيء. لم يكن يشعر بشيء مما حوله أبداً
أراد أن يتحرك. أراد أن ينفض عن جسمه ونفسه ما استولى عليهما من الاضمحلال والانحلال. أراد أن يمزق هذا الكابوس الجاثم فوق صدره ليتخلص من هذا الضيق. ولكنه لم يستطع الحركة. كان يحس بضيق أنفاسه. ويشعر بأن غمامة سوداء قاتمة تخنقه وتحبس