إن إخواننا هؤلاء يزعمون أنه لا ضرورة مطلقا لأن يتعمق الشاعر في ثقافته، لأن ذلك يؤثر من غير شك في شاعريته، ويجعله يضمن شعره خطرات علمية (باردة!) إذا كانت ثقافته العميقة تلك ثقافة علمية، أو خطرات فلسفية (حائرة!) إذا كان ممن يدمنون النظر في آراء الفلاسفة وتخبطاتهم. . . فإن كانت ثقافته لفظية، من نوع ثقافة العجاج ورؤبة وعقبة وأبي العلاء، ترك هذا في شعره ذلك المرض الأسلوبي المثقل بحوشي الألفاظ وغريب التعابير، مما يصرف القراء عنه؛ ويزهد عشاق الشعر فيه. . . وذكروا حالات غير هذه، وراحوا يضربون لكل حالة منها أمثالا تجعل رأيهم وجيها، وتكسبه قوة خداعة ذات بريق
فهل ما ذهبوا إليه من ذلك كله حق؟ وهل تطبيقاتهم صحيحة؟ لقد ذكروا المتنبي والمعري فيمن ذكروا من الشعراء الذين أتلفت ثقافتهم شاعريتهم. فهل من الحق أن المتنبي والمعري قد أتلفا شعرهما بما كانا يتعمدانه من تضمينه ألوان الثقافات التي كانا يمتازان بها
لقد نشأ المتنبي في بيئة شيعية، وتعلم في إحدى مدارس الشيعيين بالكوفة، وكان لهذا السبب من أوسع الناس إلماما بتاريخ الفرق الإسلامية وأحوالها ومعتقداتها. وذهب بعض مؤرخي الأدب العربي، ومنهم الأستاذ ماسينيون والدكتور طه حسين، إلى أن المتنبي لم يكن شيعيا فحسب، بل كان قرمطياً، وقرمطياً متطرفاً. وأن قرمطيته بدت في ألفاظه وتعبيراته وأفكاره. ويحدثنا الدكتور طه عن ذلك حديثا طليا في كتابه (مع المتنبي). وكما بدا التشييع في شعره، بدا التصوف كذلك، فهو يستعمل طرق الأداء عند المتصوفة، ويأتي في شعره وأخيلته بكثير من أوهامهم ومعتقداتهم، ويمدح أئمتهم مدحاً قد لا يسيغه المسلم الحق إلا موجهاً إلى الله سبحانه. ولم يبال المتنبي أن مدح الأوراجي الصوفي الذي كان له في مأساة الحلاج النصيب الأوفى، وأن يمدحه بإحدى روائعه التي مطلعها:
أمن أزديارَكِ في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء
ولا يبالي أن يبوح في كثير من قصائده بما لعله كان يؤمن به من الحلول والتناسخ. . . ولست أدري ماذا يقدح ذلك في المتنبي العظيم كشاعر من شعراء الصف الأول بين شعراء العرب؟ ماذا يعيب الشاعر أن يمتلئ ذهنه بلون ما من ألوان الثقافة فيكون له صدى في شعره يصدر عنه عفواً وعن غير عمد؟