قد يكون إخواننا الأعزاء على حق يلاحظون على المتنبي تعمده الإتيان في شعره بالغريب الحوشي من الألفاظ، والغريب الشاذ من الجموع والصفات. . . ولكن ما حيلة المتنبي في عصره الذي كان يزخر بعلماء اللغة وفقهائها وشيوخ النحو والصرف والبلاغة؟ لقد كان أكثر هؤلاء العلماء الأعلام يناصبون المتنبي العداء، وينفسون عليه مرتبته الأدبية التي لم يتمتع بها شاعر من قبل، فكانوا يتعقبون شعره، ويقفون له بالمرصاد، عسى أن يسقطوا له على غلطة، أو أن يعدوا عليه زلة، وكان المتنبي يعرف ذلك منهم، فكان يعبث بهم، ويغلو في هذا العبث، وينصب لهم من عربيته الفصحى فخاخاً تمسك بهم كما تمسك الشراك الثعالب
على أن أحدا من هؤلاء العلماء الأعلام لم يكن أرسخ في علوم العربية كعباً من أبي الطيب. ففي (معاهد التنصيص) - جـ١ ص١١ - (أن الشيخ أبا علي الفارسي قال (للمتنبي) يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعْلى؟ فقال المتنبي في الحال: حجلى وظرْبى، قال الشيخ أبو علي، فطالعت في كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد!). وفي خزانة الأدب للبغدادي (جـ١ ص٣٨٠) أن أبن العميد قرأ على المتنبي كتابا من كتب اللغة
ولعل الذي كان يعيبه هؤلاء العلماء الأعلام على المتنبي لم يكن جميعه، أو لم يكن شيء منه، مما يعاب على سيد شعراء العربية غير مدافع. . فقد كان المتنبي كوفيا، وكان لذلك يخرج في النحو على سنن البصريين وفي الأنصاف (طبع أوربا) تفصيل لكثير مما كان موضع خلاف بين المدرستين بصدد أشعار المتنبي، وقد أجاد الأنباري مؤلف ذلك الكتاب القيم في توضيح ذلك إجادة تامة نافعة تبرئ المتنبي مما أخذه عليه خصومه وما لا يزال خصومه في عصرنا الحديث يأخذونه عليه من مثل ذلك، مما يتوهمونه خطأ
وكما كان للمتنبي خصوم من النحويين وفقهاء اللغة، كذلك كان له خصوم كثيرون من المتكلمين، فكان يداعبهم تارة، ويداعب فقهاء المسلمين تارة أخرى، وقد عنى الدكتور طه بهذه المداعبات في كتابه مع المتنبي عناية كبيرة. . وكانت مداعباته تلك تثير بين أولئك وهؤلاء حربا فكرية طريفة في الزمن الذي كانت تجري فيه. . . فكيف نعدها اليوم من المآخذ التي نحصيها على المتنبي، ونعيب بها شعره؟