وكان المتنبي - لتشيعه - أو لقرمطيته - ولتقلبه في بلاد المسلمين من دون العراق الذي كانت غالبية أهله تفتتن بأساليب المتنبي وتشغف بها، لكثرة ما كان ينتشر فيها من الفرق وأصحاب الفلسفات الغالية، يؤثر استعمال الرمز، ولاسيما إذا كان ينشد في مجلس من السنيين، وهو في ذلك تلميذ للمتصوفة، إلا إنه غدا أستاذهم. وبالأحرى أستاذ شعرائهم. وليس للصوفية رمز، أو إشارة، لم يستخدمهما المتنبي، إلا ما نذر. والذي يدمن قراءة أشعار ابن الفارض يشعر من فوره بتأثر شيخ شعراء المتصوفة بأستاذه المتنبي، ولاسيما في استعمال المذهب الرمزي، وفي كثرة استخدام التصغير. . .
ولست أدري ماذا يعاب من ذلك كله على المتنبي، بوصفه شاعراً كان يعيش في ظروف خاصة، وكان يخضع لمقومات بيئة خاصة
على أن الذي تورط فيه إخواننا مما ذهبوا إلى إنه من عيوب ثقافة المتنبي العميقة التي أتلفت شعره، وخرجت به من جنة الشعر إلى جحيم الفلسفة، تلك الحكمة التي نثرها في قصائده، وكان فيها تلميذاً غير موفق لأرسطو!
وذكروا أن الصاحب بن عباد ألف لفخر الدولة رسالة أحصى فيها للمتنبي ثلاثمائة وسبعين بيتاً تجري مجرى الأمثال؛ فجاء الحاتمي وألف رسالته (الحاتمية) في رد حكم المتنبي إلى أصولها من فلسفة آرسطو. . . والرد على زعم السرقة هنا هين لا يكلف الإنسان عناء، وهي لو صحت لما نهضت برهانا على الذي ذهبوا إليه من تشويهها لشعر المتنبي؛ فمما لا مشاحة فيه أن حكم المتنبي لآلئ غالية يزهي بها شعره، ويتفرد بها، لا بين شعراء العربية فحسب، بل بين شعراء العالم كله. . . وليس معنى ذلك أننا استوعبنا أشعار الأمم كلها. . . ولكننا نقول ذلك بعد أن قرأنا معظم ما ألف عن تاريخ آداب العالم؛ فلم نعثر بشاعر يضارع المتنبي أو ينافسه في ميزته تلك. على أنك تقرأ الحكمة من الحكم التي ينسبونها إلى آرسطوا، والتي لا ندري المصدر الذي استندوا إليه في نسبتها إليه، ثم تقرأ بيت المتنبي الذي يحمل هذه الحكمة. فتشعر من فورك بالبون الشاسع بين أداء المتنبي وأداء آرسطو، وبين تفكير هذا وتفكير ذاك
أي فرق شاسع بين قول آرسطو: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والقص اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها